ضحى شمسمع أن سيارته مخلعة كثيراً، تماماً مثل نظارته الطبية المربوطة بمطاطة خلف رأسه، إلا أن قلبي لم يطاوعني على الرفض، برغم أنني كنت قد «حلفت» ألا أطلع بسيارة مماثلة مهما كانت الظروف. كانت هناك راكبة واحدة في الخلف، صبية جميلة تلبس جوكينغ أحمر، وقد رفعت شعرها بتسريحة ذيل الحصان، كالرياضيات. فيما جلس شاب إلى جانب السائق. ما إن انعطفنا باتجاه البسطة التحتا آتين من تقاطع بشارة الخوري، حتى بدا للسائق أن بإمكانه أن يطلق العنان للسيارة، فالطريق الفارغة تقريباً من السيارات، كانت شديدة الإغراء لمن يمضي نهاره كسائقي بيروت، ورجله على الفرامل، بسبب الزحمة الخرافية اليومية في شوارع العاصمة. هكذا، ضغط خفيفاً على دواسة البنزين فـ«سحبنا» سريعاً باتجاه تقاطع جسر البسطة. وما إن حاذينا التقاطع حتى فوجئنا بسيارة تخرج من الشارع إلى يميننا ونكاد، لولا العناية الإلهية، أن نصطدم بها. ضرب السائق الفرامل بقوة، وهكذا فعل السائق الآخر، الذي سرعان ما تصاعد صراخه: «وله..مش شايف؟ العمى بعيونك!». كان واضحاً، من مجرد المقارنة بين سائقنا الهزيل البنية، الذي يشبه مظهره حال سيارته، والسائق الآخر المنتفخ الأوداج، أن توازن القوى ليس لمصلحتنا بأي حال. هكذا، قرّب سائقنا رأسه من شباك الراكب إلى يمينه المواجه للسيارة الخصوصية راجياً الرجل بدماثة: «عفواً، والله عفواً يا خيي، مش شايفك». إلا أن الآخر، ولسبب ما، افترض أن السائق «يرد عليه» بمعنى الخناق، ربما لأنه كان ليفعل هكذا لو كان محله. «ما بدك تشوف؟ كيف يعني ما بدك تشوف؟». يرفع سائقنا صوته: «عم قول والله مش شايفك يا خيي ما عم قول ما بدي شوف». فيصعّد الخصوصي: «بنزل بفرجيك؟». تتنبه فجأة إلى أن الرجل لم يسمع ما قاله سائقنا لسبب ما. يتدخل الراكب الأمامي «عم يقلك عفواً مش شايفك. مش عم يخانقك، شو القصة؟»، يروق الخصوصي، ولكنه، مدركاً لتوازن القوى، يشير إلى سائقنا بتعالي من يستطيع العفو عند المقدرة، أن يكمل سيره «يللا زحّط»، يقول.
ابتلع السائق الإهانة. بعدها بمئة متر، يقف عاملان سوريان بثياب العمال الرثة إلى جانب الطريق، وقد حملا أكياساً كبيرة. يتوقف السائق لهما، فيقول أحدهما بعدما نظر إلى الداخل ووجد أنه لا يتسع لراكبين إضافيين: «لا شكراً». إلا أن سائقنا، الهزيل، أبو نظارات، وبعدما همّ بالتقدم، عاد ورجع لسبب ما للخلف، سائلاً بلهجة من يفتح مشكلاً: «شو قلت وله؟». كنت أنظر إلى العاملين وقد تسمّرا غير فاهمين ردة فعل السائق، تماماً مثلنا. وبرغم ذلك يقترب أحدهما من الشباك قائلاً للرجل: «عفواً يا عم، عم نقلك ما بدنا نطلع». لكن السائق لم يرتدع: «شو كنت عم تقول؟ شو قصدك وله؟». بدا أن هناك سوء تفاهم غير مفهوم. أقول للسائق ظناً مني أنه لم يسمع جيداً: «قلك ما بدو يطلع يا معلم، خلصنا هلق. بدنا نمشي ولا بدك تتخانق؟». «يقتنع» السائق مكملاً طريقه ثم يلتفت ويقول: «إنتِ ما شفتيه. عمل حركة هوي وعم يتطلع فيكِ» قلت له: «حركة؟ شو دخلني أنا؟!» فقال كالمحرج: «عمل حركة! ما بقدر قولها عيب. لو ما قلتيلي إمشي كنت بدي فرجيه قيمته. اللي بتطلع بسيارتي كأنها عرضي؟». كان واضحاً أن السائق يتسلبط على الشباب لأنه قادر على «البردعة» لا على الحمار. «لكني كنت أنظر، ولم يقم بأي حركة»! لكن حلا للسائق أن «يسوق فيها»: «عم قلك ما شفتيه يا ست. حركة عيب بيده. ما بينسكت عن هيك شي». أتذكر أن الشابين كانا أصلاً يحملان أكياساً كثيرة فبأي يد «عمل إشارة»؟ أسأل الراكبين: «إنتو شفتو شي؟» تبتسم الشابة «الحمراء» ابتسامة تواطؤ وهي تشير بيدها من حيث لا يراها أن «اتركيه يخرّف». أما الشاب، فلم يجب بشيء. «أصلاً الشاب (يقول السائق مشيراً إلى الراكب بجانبه) كان سينزل ليضربه، لو أنا ما اعمل المشكل». كان الراكب في تلك اللحظة يطلب التوقف لأنه وصل إلى وجهته. فإذ به يلتفت مستنكراً إلى السائق وهو يفتح الباب، ويقول ضاحكاً: «أنا؟ الله يسامحك. لا بدي انزل ولا أضرب حدا! منين جبتلي اياها هاي؟ أصلاً ما عملولك شي الشباب: قلك شكراً!».
يتابع السائق سيره «مصراً إلحاحاً» على الحديث نفسه. يلتفت إلينا، الصبية وأنا، بنظاراته «كعب الفنجان» قائلاً: «لو شفتيه كنتِ مدري شو عملتي». أساله: «طيب شو عمل؟» يقول «ما فيني إحكي.. شو بدي قلك؟». قلت في نفسي: اتركيه خلص. ثم قلت بصوت عال: «يللا يمكن أنا ما شفت».
في تلك اللحظة تطلب الفتاة منه أن يتوقف. تنزل، تتهادى وهي تعبر الطريق إلى الجهة الأخرى بكل ذلك الأحمر الملتصق بجسمها وكأنها احتفال متأخر بالسان فالانتين، يكمل السائق كلامه وهو لا يرفع عينيه عنها أو رجله عن الفرامل، وهو لا يزال يقول: «ما بيصير، عيب»، فيما كانت السيارات العالقة خلفنا تطلق أبواقها الغاضبة، لتحثه على التقدم.