«التّدخين يضرّ بالصحة العامة»... عفواً، هذه العبارة التي ضُلّل بها اللبنانيون لعقود خلت لم تعد تسري. «التدخين مميت»، هذا ما يجب أن يقرأه ويراه كل من يدخن وينرجل أيضاً. قانون الحدّ من التدخين يصارع منذ عام ٢٠٠٤ ليرى النور، لكنّ شركات التبغ تعمل جاهدة من أجل أن يتعفّن في أدراج مجلس النواب
بسّام القنطار
لم يتمكن الإعلاميون الذين تابعوا أعمال جلسة لجنة الإدارة والعدل في مجلس النواب، أمس، التي ناقشت اقتراح القانون الرامي إلى الحدّ من التدخين، من التحدث إلى النواب الذين حضروا الجلسة، إلا في أثناء خروجهم من القاعة لتدخين سيجارة على عجل، ثم العودة إلى القاعة لمتابعة النقاشات. وعلى عكس ما يظنّ البعض، فإن تصرّف النواب المدخنين خلال الجلسة، هو ما يطالب به مشروع القانون، أي عدم تأثير المدخن بملء إرادته على الشخص غير المدخّن عن طريق الوجود في المكان نفسه، أو ما يُعرف بالتدخين السلبي الذي يصطلح على تسميته عالمياً «اغتصاب الرئة».

الجلسة التي ترأسها النائب روبير غانم، سيطر على مناقشاتها مندوبون عن شركات استيراد التبغ العالمية، ومندوب عن إدارة حصر التبغ والتنباك (الريجي).
المدير العام لوزارة الصحة، الدكتور وليد عمار، أبدى في حديث إلى «الأخبار» انزعاجه من حضور شركات التبغ لجلسة المناقشة في مجلس النواب، مشيراً إلى أن اقتراح القانون بصيغته الحالية يتعارض كثيراً مع أحكام اتفاقية منظمة الصحة العالمية الإطارية لمكافحة التبغ التي أصبحت نافذةً في 27 شباط 2005. لذلك، فإن لبنان الذي صدّق على هذه الاتفاقية يحتاج إلى اتخاذ تدابير علمية وعملية للحد من استهلاك التبغ والخسائر الفادحة في الصحة والحياة والمال.
وكانت لجنة الصحة النيابية، برئاسة النائب عاطف مجدلاني، قد أقرّت بتاريخ 26 نيسان 2006، في قراءة أخيرة، اقتراح القانون الذي تقدم به مجدلاني بشأن الحدّ من التدخين، بعدما عقدت جلسات عدة واعتمدت صيغاً متعددة لنصوص الاقتراح وتبويبه وصياغته، آخذة في الاعتبار ملاحظات الريجي، وكذلك نقابة وكالات وشركات الدعاية والإعلان في لبنان، واستمعت إلى آراء وزارة الصحة ونقابة الأطباء.
المدقّق في اقتراح القانون ضمن صيغته الحالية يجد العديد من الثُغر والتناقضات التي من الواضح أنها راعت مصالح شركات التبغ والإعلان بطريقة تنسف روح القانون وتجعله غير قابل للتطبيق. ففي المادة الأولى يحظر القانون نشر أو بث أو عرض، بصورة مجانية أو غير مجانية، أي دعاية أو إعلان أو برنامج أو مقالة أو صورة تعدّ بمثابة إعلان أو ترويج لأي من منتجات التبغ ومشتقاته. لكنّ المشروع في المادة السابعة يعود إلى الحديث عن جدول زمني لحظر الدعاية والإعلان، ما يتعارض مع نص المادة الأولى. ويراعي المشروع مسألة وجود أماكن مخصصة للمدخنين داخل المطاعم، علماً بأن هذه المسألة ثبت عدم جدواها من الناحية الصحية على غير المدخنين.
مدير البرنامج الوطني للحدّ من التدخين، الدكتور جورج سعادة، أشار إلى أن وزارة الصحة تقدمت بسلسلة تعديلات على مشروع القانون، وكان من المفترض أن تناقش وتقرّ خلال الجلسة، لكنّ شركات الدخان طلبت إمهالها فترة أسبوعين لدراستها ومراجعتها من قبل إداراتها المركزية. ما يعني، عملياً، إشراك شركات عالمية لا تتوخى سوى الربح في تشريع وطني لبناني يتعلق بالصحة العامة، في مفارقة لبنانية بامتياز.
ويلفت سعادة إلى أن الوزارة، بالتعاون مع المجتمع المدني ولا سيما جمعية حماية المستهلك، وضعت مجموعة من التوصيات لتعديل مشروع القانون الحالي، ورفعتها إلى لجنة الإدارة والعدل، وساعد في وضع هذه التعديلات الخبيرة البريطانية في السياسات المتعلقة بحظر التدخين، فيونا دلفري. وأضاف «تراعي هذه التعديلات الأساليب كلها التي يمكن شركات الدخان استخدامها للتهرّب من تطبيق القانون، ومن أهم هذه الاقتراحات تأكيد حظر أشكال الدعاية والرعاية كلها المتعلقة بمنتجات التبغ كلياً وفوراً وفي جميع وسائل الإعلام والإعلان. أما في موضوع التحذير من مخاطر التدخين، الموضوع على العلبة، فالتعديل يتضمن إضافة صورة لا تحذيراً فحسب، مهما كان حجمه والمساحة التي يحتلها من العلبة، لأن الدراسات أثبتت أن وجود صورة على العلبة يساعد في زيادة حذر الجمهور، وخصوصاً إذا كانت الصورة لمريض مصاب بسرطان الشفة أو بجلطة ناتجة من تعطّل شرايين القلب، وغيرهما من الأمراض الناتجة من التدخين.
ونبّه سعادة إلى أن شركات التبغ، بعد اطّلاعها على التعديلات المقترحة، بدأت بحملة تضليل واسعة، وخصوصاً في صفوف مزارعي التبغ اللبنانيين، للقول إن القانون الحالي سيؤثر في واقعهم المعيشي. والحقيقة أن هذا الكلام لا يمتّ إلى الحقيقة بصلة. فدولة مثل مالاوي التي يعتمد اقتصادها اعتماداً أساسياً على زراعة التبغ، لم تتأثر بإجراءات الحدّ من التدخين، لأن القانون يحظر الترويج للتدخين، لكنه لا يستطيع منع التدخين لمن يرغب. كذلك فإنّ إنتاج التبغ اللبناني مدعوم من الدولة، واقتراح القانون لا يشير بأي مادة من مواده إلى تنظيم قطاع زراعة التبغ، ولا يمسّ أياً من الصلاحيات والإجراءات المتعلقة بدعم هذه الزراعة التي تقوم بها إدارة حصر التبغ والتنباك.
مديرة مجموعة أبحاث التدخين في كلية العلوم الصحية في الجامعة الأميركية في بيروت، البروفسورة ريما نقّاش، أوضحت في حديث إلى «الأخبار» أن «هناك حاجة إلى قانون يحظر التدخين في الأماكن العامة، وهناك حاجة إلى جسم يتولى فرض تطبيق هذا القانون». وتابعت «ثمة دراسات أجريت في الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا تظهر أن المطاعم والمقاهي لم تخسر زبائن بسبب حظر التدخين، بل على العكس اجتذبت زبائن أكثر». ونوّهت نقّاش بالتعديلات التي طرحتها وزارة الصحة على مشروع القانون الحالي، وخصوصاً لجهة التأكيد أن التدخين في المطاعم والمقاهي يجب أن يكون في الفسحات العامة وفي الخارج، فمن العبث الحديث عن أمكنة خاصة للمدخنين في الأماكن المغلقة، لأن الدراسات العلمية أثبتت أنه لا يمكن منع الأثر السلبي على غير المدخنين حتى عُزل المدخنون في ركن جانبي من المطعم.
بالنسبة إلى نقّاش، فإن المعركة طويلة بين شركات الدخان والعاملين على حظر التدخين والتنبيه من مخاطره. ومن الأمثلة عن هذه المعركة القدرة على منع شركات الدخان من الترويج بطريقة التفافية عن طريق ما يعرف بـ«المسؤولية الاجتماعية للشركات».


وضعت وزارة الصحة توصيات لتعديل مشروع القانون

ويتمثل ذلك من خلال قيام شركات التبغ بأنشطة، مثل إعطاء هبات مالية للمؤسسات الأهلية والجامعات والمدارس، كذلك فإن شركات الدخان تقوم أخيراً بتحسين صورتها عبر تمويل حملات لتوعية الجماهير بشأن وقاية الشباب من التدخين أو المساهمة في الحملات لدى قيام غيرها بتنظيم تلك الحملات. وللتدليل على صحة ما تلفت إليه نقّاش، رصدت «الأخبار» في الآونة الأخيرة تزايد حملات الرعاية التي تقوم بها شركات الدخان والتي وصلت إلى الجمعيات الأهلية. وكان لافتاً ونافراً في الوقت عينه قبول جمعية «اليازا» هبة مقدمة من إحدى كبريات شركات استيراد الدخان، عبارة عن ٣٠٠ خوذة لحماية سائقي الدراجات النارية من خطر الموت، علماً بأن المتبرّع هو الشركة التي تقتل يومياً العديد من الأشخاص حول العالم بسبب المنتجات التي تبيعها.
إذاً، هي معركة مفتوحة، وليست مناقشات مشروع القانون في مجلس النواب إلا إحدى ساحاتها، علماً بأن لجنة الإدارة والعدل ستعيد مناقشة المشروع في ١٥ الشهر الجاري، مع توقّع انضمام شركات الإعلان إلى الحملة المضادة التي تقودها شركات التبغ، لكونها متضررة إذا أُقرّ الحظر الكامل لإعلانات التبغ التي تتفرّد الفضائيات اللبنانية ببثّها.


الإخفاق في الحماية

يوضح تقرير صدر أخيراً عن تحالف الاتفاقية الإطارية بشأن مكافحة التبغ، أن أغلب الأطراف المشاركين في الاتفاقية يُخفقون في توفير الحماية الملائمة من مخاطر الدخان السلبي. ويدعو التقرير جميع الأطراف إلى الوفاء بالالتزامات التي تفرضها الاتفاقية عن طريق تنفيذ تشريع لحظر التدخين حظراً شاملاً. وقد جمعت منظمة الصحة العالمية بيانات من 192 دولة تتعلق بتنفيذ مجموعة متنوِّعة من الإجراءات الفعّالة لمكافحة التبغ، وركّزت تقويمها على تنفيذ تشريع بيئات خالية من التدخين.
وتلزم المعاهدة التي صدّق عليها لبنان حظر أو تقييد إعلانات التبغ والترويج له ورعايته، ووضع تحذيرات صحية على علب السجائر وحظر استخدام العبارات الكاذبة والمضلّلة مثل «الخفيف» و«قليل القطران»، واتخاذ تدابير لحماية المدخنين السلبيين، وإنهاء الإتجار غير المشروع بمنتجات التبغ، إضافة إلى تنظيم محتويات منتجات التبغ والكشف العام عن المكوّنات، وتقديم مساعدات للإقلاع عن التدخين ومعالجة الاعتماد على التبغ، ومنع مبيعات منتجات التبغ للقصّر.