يُخيّل للمارّ في شوارع برج حمود أن هذه المدينة الحيويّة التي يمتزج في هوائها دخان المصانع والسيّارات بروائح «البسترما» و«السجق»، لم تعد تتّسع إلّا لذلك. غير أن وجهاً آخر للمدينة ينكشف عند التعرّف إلى حرفيّين جعلوا محالّهم الصغيرة واحات إبداع
برج حمود ــ أليسار كرم
يجول رافي بنظره على الأواني النّحاسية المتراصّة على الرّفوف مربّتاً بيده الطّاولة الخشبيّة أمامه. يجلس طوال النّهار بانتظار الزّبائن الأوفياء لجدّه وأبيه، مانويل كاراميناسيان، الذي أطلق اسمه على المحلّ. «يأتون إلينا لترميم قطع قديمة وتنظيفها، أو بحثاً عن أوانٍ جديدة للزّينة، ولكنّ الزّبائن الجدد باتوا قليلين اليوم. قلّة هم الذين ينفقون أموالهم على النّحاسيات، وخصوصاً بعد ارتفاع أسعار المعادن».
ويشير رافي إلى آنية نحاسية يميل لونها إلى الأصفر الباهت «هذه قطعة مستوردة سعرها 30 دولاراً، أمّا تلك القطعة التي تشبهها فسعرها 100 دولار، لأن زخرفاتها «شغل إيدينا نحنا» رغم إدراكنا أن الزبائن ليسوا كلهم من الذين يقدّرون قيمتها». وبالحديث عن الأسعار يحمل رافي ركوة قهوة نحاسية، ويعبّر عن سخطه «لم نعد نستطيع المنافسة. فركوة القهوة التي أمامك تكلّفنا لصناعتها في لبنان 12 دولار، فيما يمكننا الحصول على 5 قطع من سوريا بـ20دولاراً». يأسف رافي لما حلّ بسوق النحاسين في محلة الكرنتينا بعدما أُزيل عام 2009 بحجّة أن تخطيطاً جديداً للمنطقة يفرض ذلك، ويرى أنّ «النّقلة ما كانت خير». فنقل المحل من الطّريق العام مقابل «فوروم دو بيروت» إلى شارع داخلي في برج حمود كان أشبه بإنزال السّتارة عليه. «بعدما أزيل سوق النحّاسين، وعمره أكثر من 45 سنة، خربت بيوت العالم. سافر البعض إلى الخارج طلباً للرزق وضمان الآخرة، فيما فضّل البعض الآخر تغيير مهنتهم والبقاء هنا. وعلى الرغم من أننا، والدي وأنا، النحّاسَان الوحيدَان الصامدان هنا، خفّت حركة البيع، غير أننا يجب أن ننتظر ونصبر قليلاً إلى أن نستقر».
يبتسم رافي للكاميرا وينحني فوق قطعة نحاسية جذابة ويدلّلها برفق، بعدما خطّت يده عليها زخرفات عربية بإيقاع رنّان منتظم، شقّ طريقه إلى آذان المارة، مسكتاً كل ضجيج. «تعرّفت إلى رائحة النحاس وحفظتها منذ كنت صغيراً. كنت أعمل في الصيف مع والدي وجدّي، وهكذا تعلّمت المصلحة. حاولت أن أدرس الحقوق في الجامعة، غير أن الظروف حالت دون متابعة تحصيلي العلمي، وكانت حرفة والدي بانتظاري مع أنني لا أتقنها مثله».
جان: الخطأ ممنوع
يفتح جان بوّابة منزله الحديدية دون أن يضيء الأنوار في المدخل. يدعونا إلى الدخول بحذر إلى صالة العرض. يتقدّم بخطوات ثقيلة نحو الحائط ويضيء تدريجيّاً لوحاته الزّجاجية الموزّعة على الحيطان، مدركاً أن وقع المشهد لن يكون عادياً. لوحات بديعة لمناظر طبيعية أو «بورتريه»، مرايا تحاصرها الألوان المسكوبة في الزجاج، كلّها تستمدّ نورها من الخلف أو من الداخل، ليتسلّل الضوء عبرها كأنها نجوم سابحة في فضاء الصالة.
وجان ميسيريان يعيش ناسكاً وحيداً في هذا المكان، هو بيت أم مُحترف لا أحد يعلم. وسط ضوضاء المنطقة الصناعية الواقعة على الخط البحري للكرنتينا، يدأب على تنظيم حياته اليومية بدقّة، ويحرص على ألّا يصيبه التعب أو الإرهاق ويعيقاه عن إتمام عمله «أنا أعمل هنا وحدي، ويعاونني أحياناً فريق عمل من الفنانين الذين تدرّبوا عندي. أخي يرسم أيضاً ويعاونني، غير أنه متزوج، ويعمل في التدريس ولا يستطيع التفرغ، لذلك أدير وقتي جيداً، وأستثمره للعمل والراحة وإتمام الأعمال المنزلية، ولا أنسى أن أصلّي ليمنحني الله القوة لأن الخطأ هنا ممنوع».
ابن الـ83 عاماً لم يتوقف عن التخطيط للمستقبل. يريد ترتيب هذه الصالة وتحويلها إلى صالة عرض أنيقة لاستقبال الزبائن ومتذوّقي فن الرّسم بالزّجاج (لا عليه). يريد ترميم ما أفسده الانفجار الذي وقع على الخط البحري في الكرنتينا، مستهدفاً موكب السفارة الأميركية ليزيل أي أثر للبشاعة المحبطة كما يقول، «عندما تعلمت التعامل مع الزجاج، منذ خمسين سنة، كنّا نعمل بزجاج حرارته 1700 درجة، مكوّن من الرّمل والماغنيزيوم والبوتاسيوم، وكنا نستعجل صبّه في قوالب مربّعة قبل أن يبرد ويتحجّر. كنت أشعر بأن الزّجاج يتحكّم في الفنّان، فيما العكس هو المطلوب».
يتأمّل وجه امرأة مرسوماً على «بارافان»، ويحدّق جيداً إلى عينيها «لم يكن ممكناً في السّابق إظهار هذا البريق في العيون، وإدخال هذه النقطة البيضاء داخل البؤبؤ العسلي. اليوم مع التطور صرنا نستخدم تقنيات مختلفة، فنحدّد الخطوط بمادة الرّصاص أو الذّهب أو الفضّة أو النحاس (...) ثم نضعها على مسطّحات لنسكب الزّجاج ونوزّعه بالتّساوي بين الخطوط. ثم نُدخل اللّون إلى الزجاج قبل أن يتحجّر بالإبرة». ولأن جان يرى أن ما ينتجه هو مولودٌ جديد يجب الاعتناء به، يشدّد على ضرورة الحفاظ عليه وإطالة عمره، بل تخليده «الحمد لله أننا في زمن التّقدّم والتّطوّر، فقد اكتُشفت مادّة بركانية تُضاف إلى خلطة الزّجاج تجعله غير قابل للكسر. أنا أخلّد كل مولود جديد عندما أضع مادّة البوليكاربونات فوقه وتحته، كأنني أُعدّ قطعة «بسكوت وراحة».
هو مُغرَم بعمله حتى انتفاء المنطق. على الرغم من انخطافه في عالم خاص جداً، لا يغفل جان ميسيريان عن متطلبات العمل والتجارة، ويؤكد أنه لا يسمح لنفسه ببيع قطع هشّة أو غير «نظيفة»، كما أنه يحترم مواصفات الزّبائن، رغم أنه يحاول توجيههم أحياناً. ويروي أن «أحدهم طلب مني يوماً أن أصنع له أرضيّة لمطعمه. أرادها أشبه بالسجادة الزجاجية المضاءة غير أنه لم يأخذ بالاعتبار بعض التفاصيل الفنية والتقنية، ثم اقتنع بالأفكار التي اقترحتها لأنني أساعد بإبداء رأيي، ولا أفرضه».


منقل تركي؟ ومالو؟

صوت من خارج محل رافي يسرق الانتباه «عندك شي للشماسي؟»، يسأله رافي أين سيضعها: على المدخل أم في الصالون؟ في قصر أم بيت عادي؟ ثم يستدرك «كم تريد أن تدفع»؟ فيجيب الرجل ضاحكاً «هلق بلّشت تفهم عليي». وهنا يسحب رافي قطعة أنيقة ولا يبخل بالشرح. يفكر الزبون قليلاً قبل أن يخرج فارغ اليدين. يستدير رافي بهدوء ممرّراً يده فوق قبّة نحاسية، ولكن مهلاً أليس هذا «منقلاً تركياً»؟ أليس الهلال وفي داخله نجمة، موجوداً على علم تركيا؟ يستنكر رافي بحدّة «ولمَ الدهشة؟ هذا منقل إسطنبولي أصلي، والأتراك تعلّموا هذه المصلحة من الأرمن، وهم يعترفون بذلك».