يبدي الخارجون من السجن حماسة لإيجاد فرصة عمل، يعتقدون أنهم يثبتون من خلالها توبتهم عن خطأ ارتكبوه ونفذوا العقوبة التي يستحقونها من خلال العيش في السجن... لكنّ السجل العدلي يُذكّر بالخطأ ويمنع احتمالات العيش الكريم
محمد نزال
ينتظرون بفارغ الصبر لحظة خروجهم من السجن. يتشوّقون إلى يوم تطأ فيه أقدامهم أرضاً خارج القضبان، فهم أكثر من يعرف قيمة الحرية، بعدما فقدوها لسنين في عتمات الزنازين. السجناء، الذين يدمغهم المجتمع بـ«العار» فيظل يلاحقهم، حتى ولو تابوا وأصبحوا مواطنين «صالحين».
في لبنان، سكن كثيرون غرف السجون لسنين، ثم غادروها عاقدين العزم على عدم العودة إليها، ليكتشفوا أنهم غادروا السجن الصغير ليرتموا في أحضان «السجن الكبير»، وفق ما يرون، ووفق ما تؤكده قصصهم، يشعرون بأنهم صاروا أسرى «سجن الحياة والمجتمع والأنظمة».
قبل 3 سنوات، خرج حبيب (34 عاماً) من السجن، بعدما قضى خلف قضبان رومية مدّة سنتين، منفّذاً عقوبته على جرم شراء دراجات نارية مسروقة، قبل أكثر من 14 عاماً، حيث لم يكن قد أكمل العشرين من عمره. ظلّ الشاب متهرّباً من تنفيذ الحكم، لاعتقاده أنه «ظالم» ولا يستحقه، لكن لم يطل هروبه، أوقف ونفّذ العقوبة.
قبل توقيفه، كان حبيب يعمل في أحد المطاعم ضمن فريق مكلف بتوصيل الطلبات إلى الزبائن. بعد تنفيذ الحكم، أراد العودة إلى عمله الأول لكي «يكسب رزقه بعرق جبينه، وتمحى من البال ذكريات الأيام الماضية».
تمكّن حبيب من استعادة وظيفته، وتعرّف لاحقاً إلى فتاة أحبّها واتفقا على الزواج. تقدم من ذويها طالباً يدها، قبلوا به لأنه يمتلك «كل المواصفات المطلوبة لزوج المستقبل»، لكنهم رفضوه بعد مدّة، وكذلك فعلت الفتاة، بعدما عرفوا أنه سجين سابق.
يقول حبيب «كانت إحدى الصدمات الكثيرة التي عشتها. ففي كل يوم أشعر بأني ملاحق وبأن العيون كلها متوجهة نحوي. لا أدري ماذا أفعل، كيف أثبت للناس أن توبتي حقيقية، وأن ما فعلته سابقاً كان من أعمال طيش المراهقة. بتّ أشعر بأن لعنة السجن سترافقني إلى قبري». تدمع عينا الشاب وهو يتحدث عن آخر معاناته. فبعدما أصدرت الدولة قراراً بمنع سير الدراجات النارية، بعد الساعة 6 مساءً، شملت الاستثناءات العاملين في خدمة توصيل الطلبات لدى المطاعم، على أن يستحصل على ترخيص خاص من وزارة الداخلية والبلديات. قدّم حبيب المستندات اللازمة لطلب الترخيص إلى أحد فروع «ليبان بوست»، ومن ضمنها بيان سجله العدلي المدوّن عليه عقوبته السابقة. بعد نحو أسبوعين، رُفض طلبه، وعندما جهد في البحث عن السبب، تبيّن له أنه «لعنة السجن من جديد». قال له مدير المطعم الذي يعمل فيه «عليك أن تحصل على الترخيص، وإلا فلن يمكنك الاستمرار بالعمل لدينا». بحثت «الأخبار» في قضية الشاب مع الجهات المختصة، فتبيّن أن المعنيين يعرفون أنه قد أنهى عقوبته، وبرّر مسؤول أمني رفيع قرار رفض طلب حبيب بالقول «هؤلاء (أي السجناء السابقون) لا يتوبون. كيف نعطي ترخيصاً له بالسير وهو سجين سابق في هذه القضية؟».
استند المسؤول إلى حكمه على «النيّات»، دون التنبه إلى سلوك حبيب الجديد. ولكن كيف للمسؤول أن يعرف أن السجناء «لا يتوبون»؟، لا يمكن الحصول على إجابة عن هذا السؤال. وهنا يعلّق قانوني بأننا إزاء «جولة أخرى من جولات التباين بين مفهوم الأمن ومفهوم العدالة».
خليل (32 عاماً) دخل السجن بجرم تعاطي المخدرات، قضى عقوبته وخرج «إلى الحرية». لكن لون هذه التهمة ظلّ مدموغاً على بيان سجله العدلي.

بتّ أشعر بأن لعنة السجن سترافقني إلى قبري
منذ خمس سنوات لم يتوقف خليل عن قصد المؤسسات والشركات طلباً للعمل، رغم أن طلبات التوظيف تُرفض لكونه «متعاطياً سابقاً للمخدرات». يقول خليل «أشعر بالذل في كل مرة أقدّم فيها أوراقي للعمل. ينظر المدير من خلف مكتبه إلى سجلي العدلي ويقرأ تهمتي السابقة. بعضهم يعلّلون الرفض بأسباب مختلفة، فيما يصارحني البعض الآخر بالسبب. كيف أثبت لهم أني أقلعت عن تعاطي المخدرات، كيف؟».
حبيب وخليل تحلّيا بالصبر، وهما ماضيان في قرار عدم العودة إلى الوراء، أملاً ببعض من الرحمة أو حتى التفهّم من قبل البعض يوماً ما. أما حسين (39 عاماً) فلم يكن صبوراً. بعد مرور عام على خروجه من السجن عاد إليه مضطراً. رفضه أبناء مجتمعه، وابتعد عنه أقرب المقرّبين، كأنه «جرثومة معدية» على حد وصف أحد أصدقائه «المخلصين»، الذي يشهد على سعي صديقه لـ«البقاء في السليم». عاد حسين إلى السرقة، بعدما عجز عن إيجاد عمل يكون فيه مقبولاً كما هو. حرّكته «النقمة» ليسرق من جديد وفي وضح النهار، كأنه كان يريد من القوى الأمنية أن توقفه، وتعيده إلى المكان الذي قضى فيه 5 سنوات، فهناك ربما لا يشعر بالغربة الموحشة، ولا بإذلال الآخرين له.


المساجين هم «شغل أيدي» المسؤولين

تصبح المخالفات التي يرتكبها المواطن «وصمة» مدوّنة في سجله العدلي، فتصعّب عليه مواصلة حياته بطريقة طبيعية. هكذا ينظر مقرر لجنة حقوق الإنسان النائب غسان مخيبر إلى السجل العدلي وما له من تبعات. أما في المعالجة، فقد رأى مخيبر في حديث مع «الأخبار» أن الحلّ الجدي للمعاناة يبدأ من السجن، «حيث يجب أن يكون هناك تأهيل مناسب لكل سجين، لكي يتمكن عند خروجه من الانخراط مجدداً في المجتمع». يعترف مخيبر بأن اهتمام الدولة بالسجون «غير موجود»، ولذلك فإن بعض المسؤولين، قبل عامة الناس، لا يثقون بالسجين السابق «لأنه شغل أيديهم، فهم يعرفون ماذا لديهم، في ظل غياب التأهيل». ويراهن مخيبر على المؤسسات غير الحكومية، التي لدى بعضها برامج لتأهيل السجون، ولكن «يجب على الدولة أن ترعى وتدعم، بل وتتبنّى هذه البرامج».


السجل العدلي

كل من ارتكب جناية ونفّذ عقوبته، تبقى مدونة على سجله العدلي مدّة 7 سنوات. أما في الجنحة، فتبقى مدونة مدّة 3 سنوات، بحسب ما ينص عليه القانون. هذه «الوصمة» لا تُزال تلقائياً، بل يجب على صاحبها، بعد انقضاء المدة، أن يتقدم بطلب «رد اعتبار» لإزالة الحكم المدوّن، أو ما يسمى «تنظيف السجل العدلي»، شرط عدم معاقبته خلال المدّة المذكورة بالحبس أو بعقوبة أشد. هناك نوعان من السجل العدلي، أحدهما أزرق اللون، والثاني أصفر. الأول يعطيه مكتب السجل العدلي للمواطن على طلبه، أما الثاني فلا يُعطى إلا بناءً على طلب من القضاء حصراً. ويشير أحد المسؤولين الأمنيين إلى أن مكاتب السجل العدل في مختلف المناطق تصدر نحو 1400 سجل يومياً. وفي السياق، لفت النائب غسان مخيبر إلى إمكان «تعديل بعض المواد القانونية لتقليل المدة اللازمة لإزالة الأحكام عن السجل العدلي».