تبدّل مناخي كان الشتاء الدافئ نسبياً إحدى تبعاته، امتلأت حقولنا باكراً بـ«السليق» هذا العام: من الهندباء (العلت) و«الخبيز»، إلى «الشومر» و«الصيفي»، فضلاً عن «الدردار» و«العنّة»، و«القرّة» و«الجرجير»
كامل جابر
يحمل أحد مشايخ بلدة الماري (حاصبيا) كيساً ضخماً يبدو كأنه كيس حطب. لا تمضي دقائق قليلة حتى يدلق الشيخ محتويات الكيس في حوض نبع «القرشي» (طول الحوض أربعة أمتار وعرضه متر واحد) جنوبي البلدة. يغسل «جبوب العلت» من المزراب المتدفق؛ وصوته يردد عبارات: «الله يبارك، هذا من خير ربنا». اللافت أن «علتات» الماري خارج التوقع هذا العام، إذ يبلغ قطر أو اتساع الجب الواحد منها نحو خمسين سنتيمتراً. أما الكميات الكبيرة التي قطفها «الشيخ» فهي «حتى نوزعها على العيال، فالموسم موسم خير وبركة» يقول.
بعد توقف المطر، تكاد الحقول الجنوبية لا تتسع أمام الباحثات أو الباحثين، عن هذا الرزق «المجاني»، النابت على سطح الأرض بأشكال ونكهات مختلفة. فـ«العلت» (الهندباء) و«الحمّيض» هما أساس «العصّورة» التي تكاد لا تخلو في موسم الشتاء من أي بيت جنوبي. وهي أصناف تنمو وتزدهر في الحقول البعل، غير المحروثة أو المزروعة. وتساعد الأرض البور على انتشارها ونموّها، لأن الحقول غير المحروثة تبقى «حبلى» ببذورها من عام إلى عام. تطبخ ربات البيوت «العصّورة» بعد سلق العلت وعصره، ويضفنه إلى «تقلاية» البصل والزيت مع «الحمّيض» المفروم. بعدها، يغلى المزيج على نار هادئة حتى ينضج. ويؤكل مع الفجل بإضافة الحامض إلى الطبق. وتعرف الهندباء بأنها مفيدة للقلب لما تحتويه من فيتامينات، ولخلوها، مثل كل النباتات، من الدهون.
على هامش البحث عن لوازم «العصورة»، ثمة من يبحث عن مستلزمات طبق «البقلة» المكون من: «خبيزة»، «دردار» (دريرة البقرة)، «بسباس» و«شومر»؛ مع إمكانية إضافة عشب يطلق عليه اسم «مصَيْرْنِيّة». ويعتبر «صحن» البقلة من الأطباق الدسمة عند الجنوبيين. تعدّه السيدة «أم يوسف» سلامة من «تقلاية» شرائح البصل مع الزيت، «التي يضاف إليها الخبيز ودريرة البقرة والبسباس والشومر، بعد غسلها وفرمها قطعاً صغيرة؛ فتقلى وتترك على النار حتى تنضج، يضاف إليها في هذا الوقت البرغل الخشن». أما إذا لم يدخل البرغل عليها، فإن الطبق منها يسمّى بـ«المقلّى» الذي يؤكل بعد إضافة الحامض.
أما للسَلَطَات الشتوية البرّية النّيئة، فهناك نبات قرص «العنّة» و«العلت» و«القرّة» و«الجرجير»؛ ولا تنبت الأخيرتان إلا بالقرب من الغدران والسواقي والأنهار. وتؤكل مفرومة و«مدعوكة» بالملح والحامض والزيت مع شرائح البصل الأبيض أو الأخضر. ثمة من يهتم أيضاً بقطف نبتة «القطّيفة» وهي من نسوغ وأوراق تميل إلى اللون الأحمر، تقلى مع البيض، فيتغنى المسنون خاصة بنكهتها.
يرى العديد من الجنوبيين أو من مختلف المناطق اللبنانية، خارج المدن، أن شأناً آخر تستفيد منه ربّات البيوت في الخروج إلى «التسليق» أو «السليق»، وهو ممارسة رياضة المشي في الطبيعة المشبعة بالهواء النظيف، مع ما يرافق حركة قطف أو قلع النبات بالسكّين من إيقاعات جسدية رياضية. فقد جاءت السيدة «إم ضومط» عون من قريتها «خزَيْز» إلى محاذاة بلدة صربا في إقليم التفاح للبحث عن لوازم طبقي «العصورة» و«البقلة». تشير السيدة إلى أن الخروج إلى الطبيعة «يعتبر المساحة الوحيدة لنا لممارسة رياضة المشي وتحريك أجسادنا، إذ إن الواحدة منا لا تكاد تفرغ من شغل البيت وإعداد الطعام، حتى ينتهي النهار. أما الخروج إلى السليق، فيمثّل متنفساً طبيعياً لنا، نستنشق خلاله هواءً نظيفاً، ونمارس الرياضة، كما نستفيد منه بجمع النباتات الطبيعية الطيبة البعيدة كل البعد عن الأسمدة والكيماويات».
يحلو للنساء بعد جمع مرادهن من «السليق»، غسل المحصول اليومي بالمياه الجارية من الغدران والينابيع، وتذوق البعض منها، نيئاً، قبل نقلها إلى البيت في أكياس أو سلال، نظيفة من الوحول. يبدأ موسم «السليق» عادة من شهر كانون الأول، وينتهي أواسط آذار، حيث الذروة. إلا أنه هذا العام، بدأت الذروة منذ شباط بسبب الأمطار التي هطلت بكثافة والشمس الدافئة التي سطعت في «عزّ» الشتاء.
تلفت «أم يوسف» سلامة إلى شأن آخر كان شائعاً في ما مضى بالنسبة للصبايا اللواتي يسرحن في الحقول للتسليق، وهو مواعدة الصبية فتى أحلامها في وسط الطريق، خلال توجهها نحو النبع أو النهر «فيلتقيان بعيداً عن أعين الأهل والعواذل». حتى أن حفلات القرى وحلقات الدبكة الشعبية قد رصدت مواعدة العشاق خلال رحلة «السليق». فمن بعض الأغاني التي كانت تتردد عن تلك الظاهرة:
«حملت المنكوش ونزلت عالسليق/ دارت الحارة ولا لقيت رفيق/ بالله يا بن العم وقف عالطريق/ تا عبي السلة شومرا وسلبينا»‏.