صدر حكم قضائي ببراءة شركة في شكا من تلويث البيئة لعدم كفاية الأدلة «العلمية والفنية». القضية رُفعت من النيابة العامة الاستئنافية في الشمال، واستندت إلى محاضر رجال قوى الأمن. أهمية الحكم تكمن في إعادة الاعتبار للمعايير العلمية
بيسان طي
نحو 16 محضراً حرره رجال قوى الأمن متهمين شركة «هـ...» العاملة في منطقة شكا، بتلويث البيئة، واستندوا في ذلك إلى مشاهدات بالعين المجردة.
المحاضر حُررت في أوقات مختلفة بين عامي 2002 و2008. وقد ادعت النيابة العامة الاستئنافية في الشمال أمام محكمة البترون في هذه القضية في تواريخ مختلفة بين عامي 2003 و2008. وذلك لمحاكمة الشركة، الممثلة بمديريها، بمقتضى المواد 770/210 و59 و60 و61 من قانون البيئة 210 ع 186 الصادر في 17/11/1997، وذلك «لإقدامهم على مخالفة الأنظمة الإدارية والبلدية وقانون البيئة في البترون في تاريخ لم يمر عليه الزمن عن طريق بعث دخان وغبار كثيف وإحداث ارتجاجات في الأرض نتيجة تشغيل مولدات الشركة واستعمال المتفجرات»، وادعت النيابة العامة الاستئنافية في الشمال على الشركة «لإقدامها على تلويث مياه البحر»، وعلى الشركة ممثلة بأحد مديريها بسبب تلويث مياه نهر العصفور.
تتناول هذه الدعوى قضية في منتهى الدقة، والحساسية بالنسبة إلى اللبنانيين عموماً. وإذا كان من السهولة بمكان الكلام عن التلوث الكبير الذي تحدثه مصانع وورش لا تراعي الحد الأدنى من الشروط للحفاظ على البيئة، فإن الحكم الصادر عن القاضي المنفرد الجزائي في البترون منير سليمان، يبدي حرصاً كبيراً على الاستناد إلى الدلائل العلمية والتقنية، ليس فقط الرؤية بالعين المجردة، نقرأ في النص أن المحاضر لم تستند إلى مرصد أو جهاز كمبيوتر أو تقرير علمي يبين كمية الدخان والغبار المتصاعد وحجم التلوث البيئي الذي سببه والنسبة المسموح بها.
النيابة العامة الاستئنافية في الشمال أودعت محكمة البترون نسخاً عن «التقرير العلمي المنظم وفقاً لتكليفها لجنة خبراء بيئيين يبين حجم التلوث ومخاطره على البيئة في منطقة شكا والجوار».
المحاضر لم تبين كمية المتفجرات المستخدمة، ولم يجر الكشف على الموقع حيث مكان التفجير من خبراء متفجرات، وفق نص الحكم الذي يضيف أنه «لم تحدد النسبة المسموح بها وفقاً للترخيص (الذي تحمله الشركة) ليُبنى على الشيء مقتضاه».
يؤكد الحكم أن المحكمة «لا يمكنها أن تستند من جهة إلى مشاهدات بالعين المجردة للعناصر المنظمة لمحاضر الضبط لتؤيد الادعاء بمخالفة الأنظمة البلدية والإدارية والإضرار بالبيئة... فيما تلك المسائل تستوجب متابعة فنية متواصلة لفترة من الزمن من لجنة علمية متخصصة، كما تستوجب معدات تقنية متطورة تقيس نسبة التلوث».
الحكم يذكر بأن تقرير لجنة الخبراء جاء على مستوى منطقة شكا بأكملها، وهي منطقة تعج بالمصانع التي يشابه نشاطها نشاط الشركة المدعى عليها، لذلك يصعب في غياب الأجهزة والدلائل العلمية والتقنية «تحديد ما إذا كان التلوث ناجماً عن المدعى عليها وحدها أو عن سواها من الشركات العاملة» في المنطقة.
أهم ما جاء في الحكم يتمثل في التشديد على «وجوب ملاحقة كل من يلوث البيئة ويضر بصحة الإنسان أياً كان»، ولكنه يلفت إلى أن هذه المسألة «لا سيما بالنسبة للمصانع وللشركات، تجري وفقاً لمعايير عملية وبواسطة أجهزة فنية متطورة».
يصعب في غياب الأجهزة والدلائل العلمية والتقنية تحديد ما إذا كان التلوث ناجماً عن المدعى عليها
لم يكتف القاضي المنفرد الجزائي في البترون بالتذكير بضرورة اعتماد معايير علمية، بل ضمن حكمه شروحات مفصلة، إذ نقرأ أن المعايير التي تحدث عنها الحكم يجب أن تستند إلى أمور عدة، هي «مراقبة يومية من الأجهزة المعنية، لا سيما الأجهزة الرسمية المعنية بالبيئة»، و«تحديد نسبة التلوث المسموح بها في مناطق عمل الشركات والمصانع على شكل (كوتا) لا يجوز تخطيها»، ومن ثم تجزئة هذه النسبة «على عدد الشركات والمصانع في تلك المنطقة بحسب حجم كل منها وقدرته الإنتاجية فيعطى المصنع الكبير كوتا أكبر من المصنع الصغير، على ألا تتخطى مجموع النسب المسموح بها لكل مصنع الكوتا المحددة للمنطقة العاملة فيها».
من الأمور التي يدعو إليها الحكم «تأجير الدولة هذه النسب لكل مصنع لقاء بدل تستخدمه في مجال تعزيز الوضع البيئي وحماية المواطنين في مناطق عمل الشركات»، و«تركيب الأجهزة الرسمية والمراجع المختصة أجهزة مراقبة متطورة داخل كل مصنع أو شركة تراقب من خلالها على مدى الساعة نسب الانبعاثات الملوثة للبيئة بحيث إذا تخطت الشركة خلال اليوم الواحد النسبة المسموح بها تفرض عليها غرامات كبيرة»، ويمكن بالتالي ملاحقتها بجرائم الإضرار بالبيئة وبالصحة وبالتلوث.
يلفت الحكم إلى أنه عند اعتماد تلك النقاط «عندها يمكن التحقق بصورة متواصلة من مدى وقوع عملية تلويث للبيئة، كما تُرصد كل شركة أو مصنع بصورة مستقلة وملاحقته وفقاً لقواعد عملية وقانونية تصل إلى حد وقفه عن العمل وسحب رخصته».
يمثّل هذا الحكم إذاً دعوة جديدة إلى حماية البيئة، ومراقبة عمل المصانع والشركات، ولكن من خلال اعتماد أجهزة علمية ودلائل فنية لا الركون إلى مشاهدات بالعين المجردة.


الخبراء يثيرون تقصير الدولة

تحدث خبراء في الشؤون البيئية لـ«الأخبار» متناولين الحكم الصادر عن القاضي المنفرد الجزائي في البترون منير سليمان، فأثنوا على التشديد على قضية ضرورة اعتماد معايير علمية، ولفتوا بدورهم إلى تقصير أجهزة الدولة المعنية في تركيب عدادات أو مراقبة ما إذا كانت المصانع والشركات المعنية قد اعتمدتها. بعض الخبراء قالوا إنه يصعب تحديد كمية التلوث ومن المسؤول عنه في غياب الأجهزة المتطورة، فيما قال آخرون إن مراقبة لون الدخان، ومدى تغيير هذا اللون على مدار الساعة واستمرار الانبعاث، كلها أمور تساعد على معرفة، ولو بالعين المجردة، ما إذا كان ثمة إضرار بالبيئة يجب الحكم عليه، ولكن يجب أن تتضمن المحاضر المنظمة من القوى الأمنية، كلاماً تفصيلياً عن هذه الأمور.


لقطة

يأخذ بعض الخبراء على الدولة اللبنانية، تحديد شروط «نظرية»، لحماية البيئة ولكنها «دون الشروط العالمية»، ويقول هؤلاء إن ثمة شركات أقرت بالإضرار بالبيئة. يتساءل هؤلاء الخبراء عن المعايير التي تعتمدها الدولة اللبنانية وأجهزتها في تحديد خبراء في البيئة، وخاصة أن هؤلاء يتولون مهمة إعداد تقارير تنظر فيها المحاكم في حال وجود شكوى ضد مصنع أو شركة أو نشاط يضر بالبيئة. هذا التساؤل إنما الهدف منه الدعوة إلى التشدد في اختيار «الخبراء المراقبين» من جهة، والدعوة أيضاً إلى رفع سقف الشروط التي يجب أن تلتزم بها الشركات، كما تتضمن دعوة إلى تضمين محاضر القوى الأمنية كلاماً تفصيلياً وعلمياً وصوراً لأي «مخالف» في نظر رجال الأمن.