راجانا حمية كأنّه اليوم الأول للكارثة. موت كثير يعود على حين غفلة، ليعيد «إنعاش» خزائن غرفة الموت في مستشفى بيروت الحكومي. تلك الغرفة التي انتظرت أياماً طويلة قبل أن تأتيها الأجساد لتطفئ بردها القارس. سبعة أجساد ونصف جثة وصلت أمس لتبيت ليلاً واحداً، ينتهي بنتائج فحوص الحمض النووي المتوقّع صدور بعضها اليوم أو غداً الثلاثاء.
أمس، أمام باب مشرحة مستشفى بيروت الحكومي، وحدها رائحة الموت كانت تطوف في الباحة الخارجية التي عادت لتغصّ بالمتشحين بالسواد، الحاضرين على عجل، لملاقاة الآتين من البحر. ثمة ما تغيّر في تلك الوجوه التي ألفت الحزن. زادت تعباً وإصراراً على الألم الذي لا يسكن إلا برؤية الجسد فقط. كلّهم، كانوا ينتظرون حضور الأجساد السبعة والنصف، علّها تكون بينها جثّة الابن أو الأخ أو الأم أو الأب. كلّهم كانوا يشبهون علي، ابن الأربعة عشر عاماً، الذي كان ينتظر والده حسين الحاج علي «الذي سيأتي معهم». كان مصرّاً على أنه سيكون من بينهم. وعندما سيأتي، سيدخل ليقول لهم «هذا والدي، لأن أكيد دغري رح أعرفه، بيّي عندو علامات فارقة، ما هو ميكانيسيان وأصابيعه رح تكون بعدها سودا». لم يكن علي الغارق في سواده، هو الوحيد الذي ينتظر جثّة والده، فجميعهم كانوا يأملون أن يكون ذلك الجسد المنتشل لهم، حتى لو كان «النصف الذي قالوا عنه». تلك باتت أقصى أمنياتهم: نصف جسدٍ يهدونه وردة في الصباح ويبكونه عندما يشتاقون إليه، لا بحراً واسعاً يتمرغون برماله وفي القلب غصّة على الجسد الذي لم تلفظه أمواجه.
مشهد الثكالى في المستشفى لم يكن الوحيد الذي أوحى بالعودة إلى الأيام الأولى للكارثة. فسيارات إسعاف الهيئة الصحية الإسلامية والدفاع المدني التي حضرت هي الأخرى على عجل وبأعدادٍ كثيرة، كانت توحي بأن صمت الصباح لن يستمر طويلاً. سينقلب بمجرّد إعلان انطلاق الأجساد من القاعدة البحرية التابعة للجيش اللبناني إلى المستشفى. وهذا ما حدث فعلاً. فلم يكد وزير الصحة العامة محمد جواد خليفة يعلن قرب وصول سيارات الإسعاف، حتى انقلب الصمت الثقيل ترقّباً. «تصطفّ» العيون أمام باب المشرحة، بانتظار الوصول. وما هي إلا دقائق، حتى تحضر سيارات الدفاع المدني الأربع بمرافقة سيارتين من الشرطة العسكرية. من دون صخبٍ، تُنزل كل واحدة ما فيها من أجساد، فيما العيون تحاول جاهدة التقاط ظلها، وسط حراسةٍ مشددة من القوى الأمنية.
لم يكن صاخباً ذلك العبور إلى غرفة الموت. فقد اعتادت العيون رؤية الموت كل يوم. لكن، يبقى هناك من يتآكله الألم الذي بات

خفت نحيب عائلات الضحايا لصالح العتب على الدولة
عادياً في وجوه الغرباء: وحدهم المفجوعون هم من يشعرون بغربة الموت، ومن كانوا يتوقون لرؤية الوجه الذي لا يعرفون عنه شيئاً بعد تلك الأيام في المياه. يُذكر أن وزير الصحة العامة كان قد عاين الجثث، ولفت إلى أن «هذه المرة أصعب من المرة الفائتة، إذ من الصعب التعرف إليها، ولذلك علينا انتظار فحوص الحمض النووي التي يمكن صدورها خلال 36 ساعة».
ولفت خليفة إلى أن هناك «عدد لا بأس به من الجثث تم رصدها، على أن تنتشلها فرق الإنقاذ اليوم».
في عيتا الشعب (داني الأمين)، كان الأهالي، يوم أول من أمس، على موعد جديد، مع تشييع الشهداء. فحُمل نعش الطفل محمد حسن كريك على الأكفّ في موكب حاشد، شارك فيه النائبان علي بزي وحسن فضل الله. الموكب الذي انطلق من أمام منزل ذوي الفقيد جاب شوارع البلدة، وصولاً إلى جبّانتها حيث ووري في الثرى.
وفي صور (آمال خليل)، المنطقة التي لم تدفن سوى واحد من ضحاياها هو حسن تاج الدين من حناويه، كان الأهالي ينتظرون انتشال 16 من أبنائها.
رئيس بلدية العباسية عبد الله فردون، والد الضحية المفقود الدكتور تنال، يتخوّف من تحلّل الجثث وضياعها. وفي منزل الضحية ياسر مهدي في جل البحر، تخفت أصوات نحيب العائلة على وحيدها لصالح العتب على الدولة «التي ضيّعتنا وكذبت علينا»، كما تقول شقيقته رشا.