حين تخرج نساء من السجن يواجهن صعوبات كبيرة، خطواتهن نحو الحرية تمثّل بداية لمعاناة جديدة أبطالها الأهل والمجتمع. كثيرات يتمنّين العودة إلى الزنازين لأنّها «أرحم»، وأُخريات يحاربن ويعملن لتحقيق استقلاليّتهن
زينب زعيتر
«إذا كان السجن للرجال... فهو حتماً مقبرة للنساء» تقول ندى (33 عاماً)، وهي تبتلع حبّة مهدئ للأعصاب، تشعل السيجارة في يد مرتجفة، تطفئها بسرعة وتلعن الحياة. تتحدث ندى بمزاجية، تتوقّف فجأةً عن الكلام، وبعد صمت دقائق تعود إلى متابعة الحديث. تروي قصتها بأسى «كنت على علاقة بشخص لمدة ثلاث سنوات، وعدني خلالها بالزواج، كنت في تلك الفترة أعمل في مشغل للخياطة، وكان يأخذ أكثر من نصف راتبي». رفضت ندى إقامة علاقة «غير شرعية» مع حبيبها، فما كان منه إلّا أن وضع لها مخدّراً في العصير «فأغتصبني ووجدت نفسي في اليوم التالي مرميّة على شاطىء البحر».
غيّر الحبيب مكان إقامته، بحثت عنه طويلاً، وعندما وجدته طلبت منه الزواج، وهددته باللجوء إلى القضاء، عندها أخذ ندى «إلى الشقة التي انتقل إليها، وهناك وجدت مجموعة من الرجال والنساء يتعاطون المخدرات ويمارسون الدعارة، وقبل أن أخرج من الشقّة دخلت مجموعة من مكتب الآداب في قوى الأمن الداخلي، وأخذت كل الموجودين»، كانت ندى بينهم، بقيت في السجن ستة شهور إلى أن «أفرج عني بتدخل الواسطة».
انتشر الخبر في المنطقة حيث تسكن ندى، ونُسجت حولها الأحاديث، فقررت عدم الرجوع إلى المنزل، تقول «كنت أعيش في بيئة محافظة، وأعرف أن الناس هناك سيلعنونني ويلعنون أهلي مئة مرة كل يوم».
قبعت ندى خلف القضبان بسبب «قضية أخلاقية»، ولذنب لم تقترفه، لكن «المشوار» لم ينته عند هذه الحلقة، تعرّفت الفتاة عن طريق الصدفة إلى امرأة «تعمل في أحد الملاهي الليلية، علّمتني الرقص الشرقي، وكانت مهنتي الجديدة. رفضني أهلي ولم يرحمني المجتمع، فاخترت هذا الطريق، كان الوضع المالي لعائلتي متردّياً جداً، فأبي رجل سكّير، وأمّي تعمل مقابل مبلغ بسيط، بدأت أرسل المال إليهما فرفضا في المرة الأولى، وبعدها خصّصت لهما راتباً شهرياً. عدت إلى المنزل بعد ثلاث سنوات تائبة، أعاني مرضاً في الأعصاب، وما زلت أخضع للعلاج إلى اليوم. قبلني أهلي لأنّني عدت وفي جيبي أموال طائلة. لم أنزل إلى الشارع إلّا بعد خمسة شهور من عودتي إلى المنزل، وكلّما مررت على الرصيف سمعت أصواتاً تردّد: إجت الرقّاصة. تدهورت حالتي الصحية كثيراً».
عند هذا الحد تتوقّف ندى عن الكلام، تتمتم وهي تغادر مقعدها «يا ريت بقيت بالسجن هونيك أرحم»، تتمسّك برفيقها الوحيد، أنيسها الذي لا يفارقها، وهو كيس مليء بالدواء «كنت أنسى دائماً أين أضعه، فعلّقته في رقبتي».
دلال (20 عاماً) هي أيضاً تمنّت العودة إلى السجن، رغم أنها تذكر بألمٍ اللحظة التي دخلت خلالها إلى الزنزانة. تزوّجت «خطيفة» بشاب يكبرها بعام. قرّرا قضاء عطلة نهاية الأسبوع في قرية الزوج في البقاع، وفي طريقهما إليها أوقفتهما دورية درك. بعد التفتيش عثر رجالها في حقيبة دلال على كمية صغيرة من المخدّرات.
بعد توقيف دلال وزوجها، عرفت الفتاة أنه مطلوب للعدالة بتهمة الاتجار بالمخدّرات. مكثت الزوجة الشابة عشرة أيام في السجن، وأُطلق سراحها منه فور كشف حقيقة نشاط الزوج، وبيّن التحقيق أنها لم تكن على علم بأن زوجها وضع المخدرات في حقيبتها.
براءة دلال لم تعنِ الكثير لأقاربها وجيرانها وأبناء المنطقة التي عاشت فيها، فبدأوا يشكّكون في براءتها. لجأت دلال إلى بيت خالتها، بعدما رفض أهلها عودتها إلى المنزل، لا لأنّها أُوقفت في السجن بل لأنّها تزوجت دون علمهم وموافقتهم. لم تطل الإقامة عند الخالة، بعد سبعة شهور عادت دلال إلى منزل ذويها، وقد سمعتهم مراراً يقولون «يا ريتها ماتت قبل ما تعمل عملتا».
«النساء هنّ الفئة المستضعفة في المجتمع، فكيف إذا كانت المرأة خارجة من السجن؟» تقول شارلوت طانيوس، منسّقة مشروع «نساء وأحداث على خلاف مع القانون» في الحركة الاجتماعية، هي تنظر بأسف إلى وضع المرأة في المجتمع بعد الخروج من السجن. الصعوبة الأبرز التي تواجه هؤلاء النساء تكمن في إعادة بناء العلاقة مع الأهل، وفي مرتبة ثانية يمكن الحديث عن مشكلة الدخول إلى سوق العمل. تقول طانيوس «لا أحد يستطيع أن يضمن عدم عودة السجينة مرةً أخرى إلى السجن، إذا لم تلقَ احتضاناً من عائلتها، ولم يتقبّلها المجتمع لتندمج فيه»، وتشدّد على أن «للسجينات حقّاً أساسيّاً بالتأهيل وإعادة الاندماج في المجتمع بعد الخروج من السجن، وهذا مما تقوم به مجموعة من الجمعيات والمنظمات غير الحكومية التي تعمل في لبنان، ومن بينها الحركة الاجتماعية».
تساعد البرامج التي تقدمها الجمعيات الخارجات من السجن، على رسم خطة مستقبلية على المستوى الاجتماعي والتعليمي والمهني، كخطوة أساسية لاستقلاليّتهن وإعادة اندماجهن.
اتُّهمت بقتل زوجها وبعد خمس سنوات قضتها في السجن ظهرت براءتها، فحملتها بيدها سلاحاً لتواجه به المجتمع بعد خروجها من السجن. ليلى (46 عاماً) تأكّدت خلال السنوات التي قضتها في السجن أنّها ستخرج إلى الحرية يوماً، وذلك رغم قناعتها بأنّها ستواجه مصاعب كثيرة بعد السجن.

الصعوبة الأبرز التي تواجه الخارجات من السجن تكمن في إعادة بناء العلاقة مع الأهل

حرمت عائلة الزوج المتوفى ليلى رؤية ولديها، أمّا عائلتها، فوقفت بجانبها ولم تتخلَ عنها، غير أنّ وضع الأهل المادي كان متردّياً جداً، فلم يزوروها بانتظام، ولم يستطيعوا توفير المال الذي تحتاج إليه في السجن لبعض الحاجيات الخاصة. خرجت ليلى بعد ظهور براءتها، وقد وجدت نفسها مضطرة إلى خوض «معركة» جديدة، معركة في وجه المجتمع، وقد تسلّحت بالإرادة والثقة بالنفس.
تأكيد براءة ليلى خفّف كثيراً من الضغوط في محيطها الاجتماعي، لكن ذلك لم يمنع نظرات مليئة بالشك، نظرات حاصرت المرأة لتوصل إليها فكرة دارت في رؤوس البعض «إنّها وإن حصلت على البراءة، فإّن سنوات السجن كفيلة بأن تجعل منها امرأة عدائية من الأفضل تجنّبها».
كان التحدي الأول بالنسبة إلى ليلى يتمثّل في تأكيد حقها في رؤية ولديها، وهي لم تطالب يوماً بحضانتهما، لأن وضعها المادّي لم يسمح لها بتوفير مسكن لائق لهما، كما أنها لن تتمكّن من دفع أقساطهما المدرسية. تدخّل نشطاء من الحركة الاجتماعية وبعض الأهل والأقارب، فسُمح لليلى برؤية الولدين. وكانت المرأة قد تابعت دورات نظمتها الجمعيات في سجن بربر الخازن في بيروت، فتعلّمت التزيين النسائي والطهو. بمساعدة الحركة الاجتماعية تمكّنت ليلى بعد خروجها من السجن من البحث عن عمل، فهي تطهو الطعام وتقدّمه إلى جانب الحلويات المنزلية إلى بعض العائلات مقابل المال.


برامج للاندماج الاجتماعي والتدريب المهني

تعدّد شارلوت طانيوس برامج التوعية التي تنظّمها الحركة الاجتماعية لنزيلات السجون وهي «برنامج تدريب مهني لتنمية القدرات والمواهب الفردية للاندماج في سوق العمل، ودورات تعليمية كمحو الأمية واللغات الأجنبية والكمبيوتر، ودورات تدريب مهني على كلّ من مهن التزيين والخياطة والتطريز، تعيد ثقة السجينة بنفسها لأنّها تشعر بأنّها تقوم بعمل منتج». تنظّم الحركة برامج تأهيل اجتماعي، هي عبارة عن جلسات يقدّمها اختصاصيون اجتماعيون ونفسانيون لتبادل الخبرات الحياتية، ولمناقشة مواضيع السجناء ومساعدتهم على التفكير في الدور الذي سيؤدّونه بعد الخروج من السجن، إضافةً إلى برامج مرافقة فردية لكل سجينة. في الحركة الاجتماعية، يبقى المساعدون الاجتماعيون على التواصل مع السيدات بعد خروجهن من السجن، فيسعون أولاً إلى العمل على إعادة اندماج السجينة داخل العائلة. وتعمل الحركة أيضاً على مساعدة السجينات السابقات على البحث عن عمل. تلفت طانيوس إلى أن «محامي الحركة يتابعون ملفات السجينات» حتى بعد خروجهن من السجن.