حين كانت حرية الفتيات بالخروج من منازلهن محدودة، كان «البلكون» المتنفّس الوحيد لهن. وأي متنفّس أفضل منه و«الخير» كله قابع في الزوايا التي يطل عليها؟
رنا حايك
ذات يوم من أيام التهجير في ثمانينيات القرن الماضي، والحرب لم تضع أوزارها بعد، والاختطاف الطائفي «دارج» ويبث الرعب في النفوس، اختفت ندى. خرجت الصبية من منزل أهلها صباحاً ولم تعد. يومها، شعر الأهل بالهلع واستنفر حي صغير في عين المريسة بأكمله بحثاً عن «فقيدته». حتى «أبو لمبة»، صاحب الدكان، ساعد هو وأبناؤه أهل الفتاة في البحث عنها. في الحقيقة، لم يكن جميع أبنائه حاضرين. فأحمد غاب. لاحقاً تلك الليلة، اكتشف الأهل أن ندى، الفتاة «العاقلة» التي لم تكن تخرج من المنزل إلا لشراء الحاجيات، قد هربت «خطيفة» مع الشاب المرابض في الدكان الذي كانت تشتري منه الحاجيات: أحمد. كان الدكان يقع في مقابل بلكون المنزل تماماً. إذًا كانت مقوّمات المشهد الرومانسي جميعها متوافرة، وكانت طاقة مكهربة من النظرات تشتعل على مدى 24 ساعة على ذلك الخط الممتد بين المكانين. في البناية ذاتها، كان ماهر، الفتى ذو العينين العسليتين، يصعد إلى السطح مع رفاقه الشباب، بينما «ضربت» إلهام صحبة ابنة الجيران فقط لأن بلكون منزلها يطل على سطح البناية المواجهة. كم بناية وكم سطحاً في بيروت شهدت على توليف قلبين في ظل حرية الشاب بالوجود في الشارع والقانون الاجتماعي الذي يجبر الفتاة على البقاء في المنزل؟ الدرابزين وحده لا يكفي لضمان تنفيذ القانون. تخترقه النظرات. وبما أن القصة هي «نظرة فابتسامة فلقاء»، يصبح البلكون نافذة لخرق القانون بدل حمايته. كثير من القصص نسجت في ذلك الفضاء الممتد بين البلكون والشارع. في تلك المساحة الصغيرة العاصية على القيود، يتفاقم إنتاج الأدرينالين لدى الطرفين، فيستعرض الشاب في الشارع صخبه وتستعرض الفتاة على البلكون صمتها البعيد تماماً عن الجمود، فهي تكسره بغواية ابتسامة مسروقة تمرّرها من وقت لآخر. قصص «الجميلة النائمة»، «روميو وجولييت»، وبعض الأبطال في ثلاثية نجيب محفوظ، أو حتى أغاني أحمد عدوية (يا اهل الله ياللي فوق، ما تحنّوا على اللي تحت)، وعزيز عثمان (تحت الشباك، ولمحتك يا ولد)، وسميرة توفيق (مرقت سيارة حمرا، هاي سيارتك يا عيوني)، تشي جميعها بزخم تراث البلكون. ماذا بقي من كل ذلك بعدما أصبحت الفتيات يتمتعن بحرية الحركة والتنقل؟ بالطبع، خفّ دور البلكون، لكنه، على عكس ما يظن الكثيرون، لم ينته تماماً. فقد حافظ في أحيان كثيرة على موقعه كبداية للقصة بالنسبة إلى الفتيات من عائلات لا تزال تتمسك بتقاليدها المحافظة على قدر ما تسمح لها المرحلة بذلك. هكذا تعرّف سامر إلى لينا. بعد نظرات طويلة محملة بالعشق والهيام، اقتنصت فرصة وجودها وحدها على البلكون، وأشارت له بأصابعها عن رقم تلفونها المحمول. بعدها، أصبحت اللقاءات تحصل في الوقت المستقطع بين الجامعة والمنزل. أما بالنسبة للفتيات اللواتي يتمتعن بحرية كاملة في التحرك، فقد «خلصت أيام البلاكين» كما تقول مايا، بنبرة متحسرة، تحنّ إلى عصر البلكون بوصفه عصر الرومانسية، رغم انتقادها لما يحمله من قوانين ذكورية تمنع الفتاة من حقوق يمتلكها الشاب في الحركة والتنقل.