كلام رئيس المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وآخرين، القاضي أنطونيو كاسيزي، تغيّر. فما قاله في نيسان 2009 يتناقض مع ما تفضّل به في شباط 2010، لكن ميثاق الأمم المتحدة واضح رغم تعدّد الاجتهادات
عمر نشّابة
«ماذا يمكننا أن نفعل؟ أنا أشعر أخلاقياً بأنني أعاني ازدواجية، لا بل أنا أتخبّط عندما ألاحظ أننا نقوم بعدالة انتقائية. ماذا عن كولومبيا والعراق وزيمبابوي وغوانتنامو؟ لكن علينا أن نقوم بواجبنا هنا»، قال رئيس المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، القاضي أنطونيو كاسيزي في 23 نيسان 2009. أما في 5 شباط 2010 فقال كاسيزي في كلية جامعة القديس يوسف للآداب والعلوم الإنسانية «نحن نؤيد المحاكم الوطنية بالطبع، لكنها لا تملك القدرة على محاكمة المجرمين، لذلك ينبغي اللجوء إلى المحاكم الدولية حيث يشترك قضاة من دول مختلفة في هذه المحاكم، ما يعطي للعدالة صدقية أكبر. وهذا النظام مبرّر وقيام المحاكم الدولية لإحقاق العدل منصف للغاية».
هذا الكلام الذي ذكّر بمضمون تقرير رئيس بعثة تقصّي الحقائق بيتر فيتزجيرالد (24 آذار 2005)، قيل بحضور وزير العدل إبراهيم نجار ووزير الإعلام طارق متري وعدد من القضاة والنواب والسفراء. وكان فيتزجيرالد، وهو ضابط شرطة إيرلندي قد «شهّر بالسلطات القضائية والأمنية اللبنانية» بحسب ما تؤكده مراجع قضائية لبنانية. «لا دليل اليوم على إحراز المحققين الدوليين أي اختراق حتى اليوم غير الذي تسلّمته من السلطات القضائية اللبنانية، بما في ذلك أرقام شبكة الاتصالات التي كان قد كشفها ضابط في مديرية الاستخبارات في الجيش، لا فيتزجيرالد ولا ميليس ولا براميرتس ولا بلمار» يؤكد مسؤول قضائي رفيع.
ميثاق الأمم المتحدة ينصّ: «ليس في هذا الميثاق ما يسوّغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي ‏لدولة ما، وليس فيه ما يقتضي الأعضاء أن يعرضوا مثل هذه المسائل لأن تحل بحكم هذا الميثاق، على أن ‏هذا المبدأ لا يخلّ بتطبيق تدابير القمع الواردة في الفصل السابع».‏ (الفقرة السابعة من المادة الثانية).
وأشار القرار 1757 «إلى الرسالة الموجهة إلى الأمين العام للأمم المتحدة من رئيس وزراء لبنان التي أشار فيها إلى أن الأغلبية البرلمانية أعربت عن تأييدها للمحكمة» دون التنبّه إلى أن النظام الديموقراطي لا يفترض أن يكون رئيس الوزراء (سلطة إجرائية) متحدّثاً باسم البرلمانيين (سلطة تشريعية).
على أي حال، إن العنوان الحرفي للفصل السابع من الميثاق ينصّ على «فيما يتخذ من الأعمال في حالات تهديد السلم والإخلال به ووقوع العدوان». ولا يشير قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1757 (30 أيار 2007) الذي أنشئت بموجبه المحكمة الخاصة بلبنان إلى «تهديد السلم والإخلال به ووقوع العدوان»، بل اقتصر وصف الجريمة على «عملية التفجير الإرهابية». وأكّد المجلس «إدانته الشديدة» لهذا الاعتداء و«الاعتداءات الأخرى التي ارتكبت في لبنان منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2005». لكن قرار مجلس الأمن لا يشمل إدانته الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، التي أدت إلى استشهاد 1191 شخصاً صيف 2006. «هذه هي السياسة. عليك أن تلوم السياسيين في نيويورك الذين يقررون في جرائم غزّة وجنوب لبنان أن لا يأخذوا أي إجراء، وفي حال اغتيال الحريري يأخذون إجراءات. هذه هي السياسة. ولا تلمنا فنحن خارج السياسة. نحن لسنا سياسيين. نحن محترفون طلب منا أن نحقّق العدل في قضية معيّنة»، قال كاسيزي في لاهاي في 23 نيسان 2009. أما في 5 شباط 2010 فالرجل نفسه قال في بيروت «في حال النزاع يعطي مجلس الأمن الأولوية للسلام على حساب العدل، أما اليوم فقد اختلفت الأمور، وبات السلام يخدم العدل، والعدل هو الذي يسمح بترسيخ السلام. (...) نحن نتوجه اليوم لترجيح كفة العدل على السلام».
رئيس الجامعة اليسوعيّة الأب البروفسور رينيه شاموسي قال أمام كاسيزي إن «دور الشاهد الذي تؤدّيه هذه المحاكم (المحاكم الدولية) تجاه الأجيال الشابة التي يجب أن تدرك أنه يستحيل في المستقبل اعتماد هذه الممارسات الإرهابية أو الجنائية التي تخضع لإجراءاتكم».

رئيس اليسوعية: ممارسات الإرهاب ستكون مستحيلة بفضل المحكمة

لكن يبدو أن بعض الوقائع العلمية التي تدلّ على استمرار الاغتيالات بعد تاريخ إنشاء المحكمة الدولية فاتت البروفسور شاموسي، ومنها وقوع انفجار إرهابي في منطقة سدّ البوشرية في 4 حزيران 2007 وآخر بعد ثلاثة أيام في منطقة ذوق مصبح واغتيال النائب وليد عيدو بعد ستة أيام وسلسلة الاغتيالات التي تبعت ذلك: النائب أنطوان غانم في 19 أيلول والعميد فرنسوا الحاج في 12 كانون الأول 2007 والرائد وسام عيد في 25 كانون الثاني والقائد العسكري في المقاومة الحاج عماد مغنية في 12 شباط 2008. فعلى أي أساس علمي (empirical) يرى رئيس جامعة أن لإنشاء المحاكم الدولية علاقة بـ«استحالة» اعتماد ممارسات إرهابية؟
يذكر أن المحكمة الدولية التي يرأسها كاسيزي لم يصدر عن المدعي العام فيها مضبطة اتهام، رغم مرور عام كامل على تعيينه وبعد أربعة أعوام من التحقيقات الدولية والمحلية، وقد فاقت نفقاتها 100 مليون دولار. كما يذكر أن على لبنان تسديد 49 في المئة من كلفة المحكمة. وكان مشروع موازنة 2009 قد رصد نحو 73 مليون دولار كمساهمة في المحكمة.


جولات

تعدّدت جولات المسؤولين في المحكمة في لاهاي إلى بيروت خلال الفترة الأخيرة، فكانت زيارة المدّعي العام الدولي دانيال بلمار في كانون الأول 2009 قد سبقتها زيارات مسؤولين قضائيين وإعلاميين، وتبعتها زيارة رئيس المحكمة ونائبه القاضي رالف رياشي. ويقوم حالياً ثلاثة محامين عامين من مكتب المدعي العام في المحكمة، برئاسة داريل مانديز، بجولة «على المسؤولين اللبنانيين» بحسب ما ورد في بيان صدر عن قوى الأمن الداخلي. فالوفد زار أمس المدير العام اللواء أشرف ريفي في مكتبه في ثكنة المقر العام. وذكر البيان أنه «جرى عرض سبل مواصلة التعاون والتنسيق بين قوى الأمن الداخلي والمحكمة». بينما يفترض أن يكون «التعاون والتنسيق» مع السلطات القضائية ومع وزارتي العدل والداخلية.


الفصل السابع: استعمار قضائي

عميد كلية الحقوق والعلوم السياسية في جامعة القديس يوسف البروفسور فايز حاج شاهين قال «إن الفقرة (ب) من مقدمة الدستور تعلن أن لبنان هو عضو مؤسس وفاعل في منظمة الأمم المتحدة وهو ملتزم بمواثيقها وبالإعلان العالمي لحقوق الإنسان. والمادة 2 من قانون أصول المحاكمات المدنية (...) تنص على أن المعاهدات الدولية لها قوة القوانين الداخلية. إن هذين النصين يعطيان القوة الإلزامية للاتفاق المعقود بين الأمم المتحدة والحكومة اللبنانية بشأن إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان، الذي أصبح نافذاً بموجب القرار 1757». وتأكيداً على ذلك فإن صدور القرار 1757 تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة يشدّد على إلزامية رضوخ لبنان أكثر من أي دولة أخرى لكل ما يصدر عن المحكمة الدولية، فيما هو أشبه بالاستعمار القضائي.