أحمد محسن الأمور ذاتها تحدث، تقريباً، بين الحين والآخر. بضعة شبان، يضعون الكوفيات الفلسطينية، ويحاصرون المقهى. يبدأون الهتافات المعادية للصهيونية، ويهددون رواد المقهى الذين يصبحون فجأة هدفاً للمتظاهرين. وما هي إلا دقائق حتى يبدأ الاقتحام. لا يبدو المحتجون غاضبين كثيراً. كأنهم يؤدون دوراً في عمل روتيني. الشكل روتيني أيضاً، فإلى الكوفيات، هناك اللحى طويلة دائماً، غير المشذّبة (كرمى لعيون الثورة)، والثياب معظمها عسكرية، كتلك التي درجت في الحرب العالمية الثانية. تنتهي المسرحية سريعاً ويغادر الجميع... إلى المقاهي القريبة طبعاً. هذا لا يعني أن ارتياد المقاهي فعل خاطئ إطلاقاً. المقاهي هي الأمكنة القليلة المتاحة للشباب بعد الجامعات والأرصفة. المشكلة أن الاعتصام كله مسرحية.
شقاء مفرغ منه، ينسحب عليه توصيف سمير قصير للأزمات العربية المماثلة في كتابه تأملات في شقاء العرب، حين لا يشك قصير في أن الإحساس الهائل بالعجز الذي يتولد عنه هذا الشقاء، يتغذّى من البكاء على أطلال الأمجاد، وقياس الذات إذاً بمرجع معياري مأخوذ من زمن آخر، وأما عجز العرب فأشد وقعاً من غيره لأنه لم يكن قائماً في الماضي. وبتعبير أكثر دقة، فإن شقاء العرب سببه عجزهم عن أن يكونوا بعدما كانوا. ببساطة، هؤلاء اليساريون الطيبون، يحاولون اختراق الجدار القائم بينهم وبين الوجود في الصراع، أكثر مما هم يحاولون التغيير فعلاً، لأن الرمزية في العمل السياسي والنضالي، تُبقي صاحبها خارج الإطار، وخاصةً في البلاد العربية الموشومة بالشمولية.
في أوروبا، وتبعاً لقصير أيضاً، التغيير الديموقراطي هو الدافع الحقيقي لأي اعتراض سياسي، وليس الدخول إلى الإطار، كما هي حال بعض اليساريين هنا. سارة، شابة يسارية إيطالية مقيمة في لبنان، تؤيد اليساريين اللبنانيين في رفضهم الحروب المتواصلة على الفلسطينيين. أكثر من ذلك، عندما قال برلسكوني إن الحرب على غزة كانت صحيحة، شعرت سارة بالخجل. تمنت أن تختفي في تلك اللحظة التي أيّد فيها رئيس بلادها جحافل الموت الإسرائيلية على حساب الأطفال. كأن قرار الديكتاتور الإيطالي أعاد ذاكرتها إلى حقبة معتمة من تاريخ الإيطاليين: الفاشية. لم تقل ذلك حرفياً، لكن المعنى كان واضحاً. في الوقت عينه، لم تحرج من أن نصف الإيطاليين يحبون برلسكوني، فنصف اللبنانيين يحبون زعماءهم. تختلف مقاربتها للأمور عن الشبّان اليساريين اللبنانيين، الذي يسعون للديموقراطية بدورهم. هي تسعى لتغيير ديموقراطي يوصل إلى نتائج ملموسة، أما هم، وحتى الآن، فيلعبون في الملاعب الخالية من الجماهير.