تفاقمت أخيراً سرقات كابلات التيار الكهربائي في المناطق، ما دفع بمؤسسة كهرباء لبنان إلى مطالبة المسؤولين بالتصدي لهذه الظاهرة. وإزاء عدم وجود خطة شاملة للمكافحة، تنشط عصابات «النحاس الأحمر» ويجمعون ثروات هائلة، فيما تزداد أعباء المواطنين المالية، فضلاً عن غياب الكهرباء
محمد نزال
لم يكن ينقص أزمة التيار الكهربائي في لبنان سوى تفاقم ظاهرة سرقة كابلات التوتر العالي وأسلاك الربط عن الأعمدة، حتى تزداد العتمة في مختلف المناطق. بهذه الكلمات عبّر مسؤول في مؤسسة كهرباء لبنان عن انزعاجه من تزايد «الحرامية»، الذين يسرقون كميات كبيرة من الكابلات الناقلة للتيار الكهربائي، ليبيعوها بما تحتويه من نحاس ومعادن ثمينة في «أسواق» الخردة.
هذه الظاهرة ليست جديدة، ولكن تفاقمها في الآونة الأخيرة دفع بمؤسسة كهرباء لبنان إلى رفع الصوت، والطلب من القوى الأمنية المختصة متابعة هذا الموضوع وملاحقة الفاعلين، نظراً إلى ما يسبّبه الأمر من «خسائر مادية جسيمة، وهذا ما يؤثر سلباً على التغذية بالتيار في المناطق التي تحصل فيها هذه السرقات». وكانت المؤسسة قد ذكرت في بيان لها أن كمية الأسلاك المسروقة خلال مدة 5 أشهر من العام الماضي بلغت 10000 كيلوغرام، توزعت بحسب المناطق على الشكل الآتي: 4800 كيلوغرام في الشمال، 3300 كيلوغرام في البقاع، 1500 كيلوغرام في الجنوب، 400 كيلوغرام في جبل لبنان.
ولكن كيف يستفيد السارقون من الكابلات المسروقة؟ ولمن يبيعونها؟ وهل هي غالية الثمن، حتى يطمع البعض فيها ويخاطر بحياته أثناء قطعها؟ يقول علي م. وهو أحد المختصين في جمع المعادن وبيعها، إن كابلات الكهرباء تحتوي على نحاس أحمر خام، وهذا يعدّ من أغلى أنواع النحاس في السوق، إذ يبلغ ثمن الكيلوغرام الواحد منه نحو 10 دولارات أميركية. ويرى علي أن هذه المصلحة هي «ذهب خالص»، بحيث أصبح بعض العاملين فيها «من أصحاب الملايين، وخاصة أولئك الذين يتاجرون بالكابلات المسروقة وما تحويه، إضافة إلى النحاس الأصفر الموجود في الكابلات الصغيرة، فضلاً عن الألمنيوم والحديد».
بلغت خسائر سرقات الكابلات 150 مليون ليرة خلال شهرين فقط
وبحساب بسيط لـ«غنيمة» سرقة الكابلات التي حصلت قبل أسبوع، عند مدخل بلدة مجدل بلهيص في راشيا، يتضح أن السارقين قد «ربحوا» مبلغ 3000 دولار أميركي، بعدما تمكنوا من قطع كابلات قدّر طولها بأكثر من 2000 متر وبوزن 300 كيلوغرام. وفي حادثة أخرى حصلت قبل مدّة في منطقة زغرتا، كانت «الغلّة» مرتفعة جداً، حيث استغل مجهولون انقطاع الكهرباء عن المنطقة، ليسرقوا كمية كبيرة من الكابلات، قدّر ثمنها بنحو 22 ألف دولار أميركي. لم يعلم أحد بالأمر في البداية، ولكن أهالي المنطقة استغربوا المدّة الطويلة لغياب الكهرباء، ليكتشفوا بعد ذلك أن سبب الانقطاع هذه المرة لم يكن من «الدولة»، بل من سرّاق الكابلات الذين باتوا يزيدون طين التقنين بِلّة.
تؤخذ الكابلات المسروقة عادة إلى أماكن نائية، حيث تجمع كميات كبيرة منها، ويصار إلى حرقها بغية فصل المادة الكاوتشوكية عن النحاس الأحمر. بعد ذلك، يُنقل النحاس إلى أصحاب «البور» المختصة في تجارة المعادن. هكذا أوضح مسؤول أمني رفيع لـ«الأخبار» أسلوب العمل الذي يعتمده سارقو الكابلات. ويردّ المسؤول على المطالبين بالتصدي لهذه الظاهرة فيقول: «هل عرفنا بأحد السارقين ثم تجاهلناه؟. هناك عصابات على مستوى عال ورؤوس كبيرة تعمل في هذه التجارة، وقد أوقفنا أخيراً عدداً منهم في منطقة الشمال والبقاع». ويضيف المسؤول الأمني أن بعض السرّاق «لديهم جرأة رهيبة، بحيث يعودون إلى المنطقة نفسها التي سرقوا منها سابقاً، ثم يسرقون منها مجدداً بعد أن تكون مؤسسة الكهرباء قد أعادت إصلاحها ووصلت ما قطع».
هل تقوم القوى الأمنية بزيارات مفاجئة لـ«البور» التي تعمل في تجارة المعادن المعاد تصنيعها؟ يجيب المسؤول الأمني بـ«نعم، بالتأكيد»، ولكنه يردف قائلاً «لقد بات البعض منهم خبيراً في كيفية إخفاء الكابلات المسروقة. فإما يضعونها في أماكن غير ظاهرة، وإما يقطّعونها إلى أجزاء صغيرة ويقومون بإعادة تدويرها مع كميات أخرى من النحاس». وعلى الرغم من إشارة المسؤول الأمني إلى تراجع هذه الظاهرة في الأيام الأخيرة (ربما بسبب رداءة الطقس)، فقد سُجّلت 20 حالة سرقة كابلات في مختلف المناطق، منذ بداية العام حتى يوم أمس.
مسؤول أمني آخر شرح لـ«الأخبار» أساليب أخرى يعتمدها سارقو الكابلات الكهربائية. فبعض التجّار الكبار يوظفون عدداً من الأشخاص في التجوال على الطرقات. يراقبون ويرصدون بعض «الأهداف» أثناء تجوالهم في الأحياء وهم يجرون عربات مدولبة، وهم ينادون «يلّي عندو نحاس، بطاريات، خردة للبيع». ويضيف المسؤول «بعض هؤلاء يستعمل سيارات البيك آب، واللافت أنهم يتمتعون بسرعة فائقة في قطع الكابلات ووضعها في السيارة». يشار إلى أن السرقات لا تقتصر على الكابلات النحاسية، فهناك سرقات تستهدف جميع القطع المعدنية. وتتلقى القوى الأمنية باستمرار شكاوى من مواطنين، تفيد بسرقة براد أو غسالة وغيرهما من القطع التي يصادف وجودها خارج المنزل، ولا تُستثنى من ذلك بوابات الحديد.


خسائر مالية وزيادة في التقنين

أعلنت مؤسسة كهرباء لبنان أن خسائر سرقات الكابلات، خلال مدّة شهرين، بلغت أكثر من 150 مليون ليرة لبنانية. وأكدت المؤسسة أنها في صدد إقامة دعاوى قضائية على سارقي الكابلات الكهربائية. وفي حديث له مع «الأخبار»، لفت مصدر مصرّح له بالتصريح، إلى أن سرقة الكابلات «تصيبنا مالياً وتقنياً، وبالتالي تؤثر على المواطن من الناحية المالية، فضلاً عن زيادة التقنين». وأشار المصدر نفسه إلى أن المؤسسة تتابع هذا الموضوع مع المسؤولين ومع القوى الأمنية لتحصيل حقوقها، لأنها «لا تملك جهازاً أمنياً خاصاً، ولذلك طالبنا وما زلنا نطالب المسؤولين والفعاليات وجميع المواطنين بمساعدتنا في مكافحة هذه الظاهرة المتفاقمة، التي لا يبدو أنها من فعل هواة، بل عمل منظّم يؤذينا ويؤذي جميع المواطنين، ويكلّفنا غالياً».


حكم

لم تتمكن القوى الأمنية من وضع خطة شاملة تمنع سرقة الكابلات الكهربائية، بحسب المتابعين لهذا الموضوع. بيد أن هذا لا يعني عدم توقيف بعض المتعدّين على الحق العام. فقد أوقفت القوى الأمنية المواطن إبراهيم د. بعد الاشتباه في سيارته الـ«بيك آب» التي كان يركنها أمام منزله ويغطيها بشادر من القماش. وبعد تفتيش السيارة، تبين أن صندوقها الخلفي يحتوي على كمية كبيرة من الأسلاك النحاسية والألمنيوم وقطع معدنية مختلفة. وفي التحقيق معه، نفى إبراهيم بداية علاقته بأي سرقة، ولكن بعد عرض الأسلاك على مؤسسة كهرباء لبنان، تبيّن أنها تعود إليها، وكانت تستخدم في تمديدات الشبكة العامة.
أصدرت محكمة جنايات طرابلس حكماً قضى بسجن إبراهيم مدّة 5 سنوات.