بين اتفاقية وارسو عام ١٩٢٩ واتفاقية مونتريال عام ١٩٩٩ فرق شاسع. توسّع قانون الجو الدولي في تفسير التعويضات وقيمتها والاختصاصات القضائية ونطاقها، لكن هل يفيد ذلك إذا لم تكن إثيوبيا موقّعة اتفاقية مونتريال؟
بسام القنطار
يخطئ من يظن أنّ من المبكر الحديث عن ملف التعويضات المتعلق بحادثة تحطم طائرة البوينغ التابعة لشركة الطيران الإثيوبية. وعلى الرغم من الكلام الذي أُطلق على لسان أكثر من مسؤول من أنّه لا شيء يعوض عن الضحايا الذين قضوا في هذه الحادثة المأسوية، إلا أن ذلك لا يعني أن يُتجاهل هذا الموضوع إلى حين انتهاء أعمال التحقيق، فالتجارب السابقة تؤكد ضرورة أن يباشر بفتح الملف القانوني للحصول على التعويضات من اليوم الأول لوقوع الكارثة.
شركة الطيران الإثيوبية سارعت إلى الإعلان، أول من أمس، أنها لا تستبعد كل فرضيات أسباب سقوط الطائرة، بما فيها العمل التخريبي. وفُهم هذا الإعلان بأنّه رد على التسريب اللبناني الذي ظهر إلى العلن بشأن التحقيقات الأوّلية التي رجحت أن قائد الطائرة يتحمل المسؤولية عن وقوع الحادث. المدقق في هذه الإعلان يستنتج أن خطوة الشركة تأتي في سياق المرافعة القانونية الأوّلية لجهة تحمّلها كامل المسؤولية عن دفع التعويضات في حال إثبات هذه الفرضية، ما يعني أن الشركة تستعد لمسار طويل من المنازعات القضائية يحكمها قانون الجو الدولي ومعاهداته الكثيرة والمتشعبة.
الملاحظة الأولى التي يمكن الإشارة إليها في هذا المجال هي الالتزامات القانونية الدولية لشركة الطيران الإثيوبية الحكومية، وتالياً للدولة الإثيوية.
يحكم قانون الجو الدولي ٤٢ معاهدة واتفاقية وبرتوكولاً دولياً، بدءاً من اتفاقية وارسو عام ١٩٢٩، مروراً باتفاقية مونتريال عام ٢٠٠٩.
واتفاقية وارسو أساسية في شأن التعويضات الخاصة بالنقل الجوي القائمة على مبدأ حماية المستفيدين من خدمات النقل الجوي. واللافت أن إثيوبيا تتحفظ على الفقرة الأولى من المادة الثانية من هذه الاتفاقية لجهة صلاحية الاتفاقية للنظر في مسائل النقل الجوي الدولي التي تنفذ مباشرة من جانب إثيوبيا. ولم توقع أي تعديل أُجري على هذه الاتفاقية بدءاً من عام ١٩٥٥ وصولاً إلى التعديل الأخير الذي جرى في مونتريال عام ١٩٩٩.
في المقابل، فإن لبنان عضو فاعل في اتفاقية مونتريال منذ عام ٢٠٠٥، وقد شارك بفاعلية في المؤتمر الدبلوماسي لقانون الجو الذي عُقد في مونتريال في نيسان العام الماضي، والذي أُقرت فيه اتفاقية بشأن تعويض الضرر الذي يلحق بأطراف ثالثة الناتج من أفعال التدخل غير المشروع، التي تشمل طائرات، وفيه أُقرّت أيضاً اتفاقية تعويض الضرر الذي تلحقه الطائرات بالأطراف الثالثة، ما يعني أن لبنان يستطيع أن يطالب، وفق القانون الدولي، بتعويضات عن حادثة الطائرة الإثيوبية، باعتباره طرفاً ثالثاً، إضافة إلى التعويضات التي سيطالب بها أهالي الضحايا وأصحاب الأمتعة والبضائع التي كانت على الطائرة.
اللافت أن اتفاقية وارسو جعلت المحكمة المختصة هي محكمة الدولة التي وقع فيها الحادث، لكن اتفاقية مونتريال ١٩٩٩ أضافت إلى ذلك محكمة العمل الرئيسي لمشغل الطائرة. لكن التعديل الأبرز الذي أُقر في اتفاقية مونتريال هو النظام الموحّد في شأن التعويض لضحايا الكوارث الجوية، الذي يفترض أن يسهّل عملية الحصول على تعويضات سريعة للأضرار، دون الحاجة إلى منازعات قضائية طويلة.
يستطيع لبنان أن يطالب بتعويضات عن حادثة الطائرة الإثيوبية باعتباره طرفاً ثالثاً
تحمّل اتفاقية مونتريال شركات النقل الجوي وشركات التأمين المتعاقدة معها على نحو صارم مسؤولية التعويض الموحّد لكل ضحية، الذي يصل إلى 100.000 «أس دي آر» (حقوق السحب الخاصة)، وهو خليط من قيم العملات التي أنشأها صندوق النقد الدولي، ما يعني نحو 154800 دولار (بالمقارنة مع قيمة الدولار في حزيران عام ٢٠٠٩). أما التعويضات الإضافية فهي غير محددة بمبلغ معين وتبنى على أساس افتراض الخطأ الذي أدى إلى وقوع الحادث. ويحق لشركات الطيران تجنّب المسؤولية عن التعويض الإضافي من طريق إثبات أن الحادث الذي أدى إلى إصابة أو وفاة لم يكن بسبب الإهمال أو يعزى إلى الإهمال من طرف ثالث. وعادة ما تبدأ المنازعات القانونية بين عائلات الضحايا وشركة الطيران على قيمة هذا المبلغ، فتطالب العائلات برفع قيمة التعويض الإضافية، فيما ترفض الشركات ذلك وتطالب بالاكتفاء بالتعويض الأساسي، ما يؤدي إلى دعاوى قضائية طويلة ومضنية.
واتفاقية مونتريال زادت الحد الأقصى لمسؤولية شركات الطيران عن فقدان الأمتعة إلى 1000 «أس دي آر»، فيما المبلغ الذي كان وارداً في اتفاقية وارسو كان يحتسب قيمة التعويض على أساس وزن الأمتعة.
إذاً، اتفاقية مونتريال هي بمثابة نظام جديد لتعويضات حوادث الطائرات والأضرار الناتجة من تلك الحوادث بالنسبة إلى الركاب والأمتعة والبضائع، سواء أكانت وفيات أم جروحاً خطيرةً أم متوسطة أم بسيطة، كذلك التلف الكامل أو الجزئي في البضائع والأمتعة بديلاً من النظام السابق الذي كان يُعرف بنظام وارسو الذي مضى عليه أكثر من 80 عاماً.
وتكمن أهمية اتفاقية مونتريال في أنها رغم منحها المشغّل حق الرجوع على المسبب في حال ثبوت تدخّل غير مشروع أدى إلى وقوع الحادثة، إلا أنها أوقفت تنفيذ جميع الأحكام التي قد تصدر في مصلحة المشغّل ضد مرتكب الفعل إلى حين إتمام التسويات كلها بين المشغّل والمتضررين، ما يعني أن المشغّل ملزم بالوصول إلى تسويات سريعة مع أهالي الضحايا، لأن الدخول في عملية تقاضي أمام المحاكم الدولية يستغرق فترة طويلة، ما قد يترتب عليه سقوط الحق في تنفيذ الحكم، وخاصة في الدول التي تتقادم فيها تلك الحقوق بمدد قصيرة.
لكن هل تنطبق اتفاقية مونتريال على إثيوبيا، وإن لم تكن عضواً فيها؟ في رأي الخبير في القانون الدولي، الدكتور شفيق المصري، «من المبكر الوصول إلى هذا الاستنتاج، وخصوصاً أن مسار التحقيق قد يوصل إلى سيناريوات مختلفة. لكن بدون شك، فإن شركة التأمين المتعاقدة مع الشركة الإثيوبية تنطبق عليها الاتفاقية الدولية السارية المفعول». يضيف المصري: «المنازعات القانونية تأتي في مرحلة لاحقة، وقد يكون من الوارد رفع الدعاوى أمام المحاكم اللبنانية أو الإثيوبية. لكن المهم الآن تحديد المسؤوليات، وبناءً على هذا التحديد، ينطلق المسار القانوني الذي يشمل الدولة اللبنانية باعتبارها طرفاً ثالثاً متضرراً، وخصوصاً أن الحادث وقع في نطاق مياهها الإقليمية».
الأستاذ في القانون الدولي حسن جوني يرى أنّ من المفيد أن تُدرَس الاحتمالات وأن تتبنى الدولة اللبنانية القضية من طريق وزارة العدل. لكن المهم في رأي جوني ألا تسلك هذه القضية المسار الذي سلكته قضايا التعويضات عن الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، التي لم تُتابعها وزارة العدل رغم الملفات القانونية التي أُعدّت.


تخوف من المماطلة

يتوقع أن يمثّل ملف التعويضات القضية الأبرز بعد إعلان توقف أعمال البحث عن الضحايا. وقد ألّف مجلس الوزراء لجنة قانونية تشترك في إدارتها وزارتا العدل والخارجية لمتابعة الملف القانوني الذي سيشمل تعويضات الضحايا وتعويضات الطرف الثالث، أي الدولة اللبنانية. لكن هناك شبه إجماع على أن الحكومة ترى أنّ من المبكر لأوانه الحديث بالتفصيل عن هذه المسألة. المكتب الإعلامي لوزير الخارجية والمغتربين، علي الشامي، أكد أن الوزارة ستنسق مع جميع الجهات المعنية على المستوى الحكومي، وأن لوزارة العدل الدور الأساسي في ما يتعلق بالملف القانوني. بدوره، حذر النائب السابق، المحامي حسن علوية (الصورة)، وهو وكيل الجزء الأكبر من ضحايا حادثة تحطّم طائرة كوتونو الشهيرة في عام 2004، أهالي الضحايا من المماطلة، «فرغم مرور ست سنوات على الدعاوى التي رفعها، فإن العديد من عائلات الضحايا لم يقبضوا حتى اللحظة». ويختم: «المهم هو مدى انطباق الاتفاقيات الدولية على إثيوبيا، وخصوصاً أنها لم توقّع اتفاقية مونتريال».