رامي زريقفي بداية القرن العشرين، انتشرت منظمات المجتمع المدني في لبنان كما في سائر الوطن العربي. وبالرغم من صبغتها الإنسانية، لعب بعضها دوراً سياسياً هاماً من خلال نشر الفكر الوطني. كما أنها ساهمت في وضع إطار لتنظيم المجتمع وتجييشه حول أجندة سياسية كان محورها تثبيت الهوية العربية. بعد انتهاء الحكم العثماني وتقسيم بلاد العرب إلى مستعمرات أجنبية، مثّلت تلك الجمعيات المدنية رأس حربة العمل السياسي المدني في سبيل الاستقلال، كما أنها دعمت العمل العسكري السري. فيها، ولدت أولى القيادات «الثورية» آنذاك، التي أصبحت في ما بعد أول أفواج من اليساريين والقوميين العرب. ثم قامت «الدولة» التي أتت معها موجة الانخراط في علاقة إغواء ذيلية بالمستعمر السابق الذي ربط الحكومات الفتية بالمساعدات والإغاثة. هكذا، انتقلت الشعوب من الاستعمار إلى التبعية الاقتصادية والسياسية والثقافية. أتت الإصلاحات الاقتصادية التي فرضها ثنائي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لتزيد من ضعف الدولة ولتهيئ الأجواء لوضع مسؤولياتها في قبضة القطاع الخاص. أوصت تلك الإصلاحات بتسليم مصير كل من لا يستطيع تحمّل كلفة الخدمات الخاصة للجمعيات الأهلية التي اكتسبت اسماً جديداً: NGO أي الجمعيات غير الحكومية. إلا أن هذه الجمعيات لم تنجح سوى في القيام بنشاطات رمزية، وأصبحت تابعة للممول الأجنبي الذي كان في أكثر الأحيان هو نفسه المستعمر القديم ــــ الجديد. كما حملت شعارات كانت في الكثير من الأحيان مستعارة وغريبة عن مجتمعها. كما انطوت في تلك الجمعيات «الإنتليجنسيا» اليسارية والقومية السابقة، قالبة التاريخ رأساً على عقب، وتاركة السياسة على حساب التنمية. ألم يقل ماركس إن التاريخ إذا ما أعاد نفسه، يأتي على شكل مسرحية هزلية؟