«أعطِ خبزك للخباز ولو أكل نصو» مثل تستطيع من خلاله إقناع الخبازين بالحديث عن مهنتهم. في يومياتهم، طحين وعجين ونار تثير الفضول للتعرف إلى قصص الخبز وأنواعه، وخاصة أنه المادة الغذائية الأكثر استهلاكاً
محمد محسن
وأنت تدخل إلى الفرن الكبير، حيث تخرج أرغفة الخبز، منتفحة ودافئة، أسمرها وأبيضها، تدرك أن للخبز عالماً خاصاً به. قوام هذا العالم: مخبز ضخم، جنزير طويل أو ممر تستند إليه الأرغفة، أكياس طحين ضخمة، وعمّال فقراء يصلون الليل بالنهار ليطعموا غيرهم. الخبازون جنود مجهولون، لا يحسن الناس تقديرهم، حتى في لحظات الشبع. ذلك الرغيف، كتبت فيه روايات، ومن أجله تشن حروب كثيرة، وتغتال الكوارث كثراً يهاجرون للحصول على لقمة منه.
ميدانياً، في السوق المحلية، أنواع كثيرة من الخبز، على الرغم من أن آلات المطاحن اللبنانية لا تستخرج من حبة القمح أكثر من 6 أنواع من أصل 22 نوع طحين يمكن استخراجها أثناء عمليات الطحن. أبيض، أسمر، عربي، إفرنجي، تنور، مرقوق، وأسماء أخرى لسلعة واحدة. يومياً، يخرج من الفرن أو المخبز الكبير، ما معدله 45 ألف رغيف خبز عربي. كمية تزيد أو تنقص تبعاً لحجم الفرن وساعات عمله وعدد زبائنه اليوميين. ولخلطة هذا الخبز العربي، بساطتها التي تبرر الحاجة اليومية إليها. طحين وملح وسكر وخميرة وماء. يومياً، يستنزف الفرن 5 أطنان من الطحين الأبيض. تمتد فترة استعمال هذا الطحين وتصنيعه لينتج خبزاً عربياً أكثر من نصف يوم. تخرج ربطات الخبز على دفعتين. الأولى مع طلوع ساعات الفجر الأولى، وتكون حصيلة عمل ليلي متواصل. أما الثانية فهي خبز ما بعد الظهر، ويتميز بأنه يخرج مباشرة من الفرن إلى المستهلك. لا يختلف اثنان على التفاوت في نوعية الخبز ومدى صلاحيته. ولهذا الفارق أسباب، لا يكفي أن تتذوق الخبز الطري أو الجاف لتعرفها. تحتاج إلى من يوضح الأسباب. ورث علي حاريصي العجانة والفرن عن والده. في جعبته خبرة أربعون عاماً مع الخبز. يشير حاريصي إلى أنه على مستوى الخلطة، تبدو الأرغفة متشابهة، لكن الفارق يكمن في نوعية المواد الأولية. فبين الطحين الإكسترا والطحين العادي فارق كبير. فالأول يحافظ على خصائصه الغذائية ويسمى في عرف الخبازين «طحيناً قوياً»، أما الثاني الذي يكون طحيناً عادياً، فلا يصمد لأكثر من يوم. يؤكد حاريصي أن تعدد أنواع الطحين في «العجنة» الواحدة وفقاً لمعايير محددة «يزيد من جودة الرغيف وطعمه». لكن هذا لا يعني أن صناعة الخبز ترتبط فقط بنوعية الطحين. هي عملية تكاملية بين فريق عمل المخبز، والمواد الأولية. باختصار، ليخرج الرغيف صالحاً للاستهلاك، يحتاج إلى بيئة ملائمة. تقوم هذه البيئة على «تطويل مسافة الجنزير أو تقصيرها» يقول حاريصي. خلف كواليس المخبز، يتكون فريق العمل في الأفران المتوسطة الحجم، من سبعة عمال. أهمهم المراقب الذي يهتم بنوعية الرغيف ومستوى سماكته، إذ يجب ألا يكون سميكاً ولا مشروحاً. إلى جانب المراقب، يقف «الكسّير» وهو الذي يظل يملأ آلة التقطيع بالعجين. أما العجّان فعمله مستوحىً من صفته. هكذا يبقى عمال توضيب الربطات وتغليفها لاكتمال «طقم الشغيلة».
على مستوى أنواع الخبز الأخرى، فهي كثيرة. لكن اختلافها مع الخبز العربي ليس كبيراً. فالخبز الأسمر تضاف إلى عجنته قشرة القمح، وهو المطلوب بكثرة من ممارسي الحمية الذين يعانون السكري ومشاكل الهضم. أما خبز الشعير فصناعته ليست سهلة. عجينته ليست متماسكة وغالباً ما تكون سميكة، وقليلة هي الأفران التي تقدم هذا النوع. ثمة نوع آخر وهو حبز «الأكويا» الذي تدخل في وصفته مجموعة طحالب بحرية تستخرج من الساحل القاري في قعر البحر، وهو مليء بالبروتينات الطبيعية. وفي الضفة المقابلة، هناك خبز الباغيت أو «الإفرنجي» كما هو شائع. ينقسم إلى نوعين: عادي أو طري. الأول هو ذو الحبة الخشنة والمنتفحة من الداخل. أما النوع الطري فيرتبط بخبز الباغيت الممزوج بالحليب أو المطعّم بالفاكهة المجففة.
يصعب الحديث عن الخبز والطحين من دون التعريج على توزيعه. عمل الموزعين مضن. كيف لا؟ وعملهم يبدأ في الساعة 3:30 فجراً وينتهي عند السادسة مساءً. محمد منذر هو أحدهم. لمحمد علاقته الخاصة بالليل وبتوزيع الخبز «نتعرض لمضايقات كثيرة لكن لا أحد يعرف بنا حين نجوب الشوارع ليلاً. أما عن «شغلة الخبز» فهل هي ربيحة؟ يضحك منذر قبل أن يتحدى السائل «اشتغل 15 يوم وشوف التعب». بنظره، اللبنانيون يتعاملون مع «اسم الربطة» قبل التعامل مع ما بداخلها من أرغفة. لا ينسى لحظات صعبة من توزيع الخبز أيام الحروب «ساعتا الناس بتصير تقدّر قيمة الخباز» يقول منذر، داعياً ألا تتكرر تلك اللحظات، لأن «الخبز خلالها يصبح مختلفاً عن ذاك الذي نتناوله اليوم» كما يختم.