أمهل أهالي الضحايا اللبنانيين المعنيّين بعمليات البحث مهلة 48 ساعة، تنتهي اليوم، لتنفيذ مطلبهم بإنزال غطاسين مدنيين للمشاركة في الإنقاذ، قبل أن يتخذوا خطواتهم التصعيدية التي «قد تكون باكورتها قطع الطرقات»
محمد محسن
يجتمع أهالي الضحايا اللبنانيين، صباح اليوم، في مستشفى بيروت الحكومي، وفي جعبتهم مطالب مستحقة، وخصوصاً في ظل ما يرونه من إهمال ينهك عمليات البحث عن أهلهم. ما سيجري اليوم، هو استكمال لعمل اللجنة التي أطلقوها أول من أمس من أمام المستشفى. فإضافة إلى مطلب السماح للغطاسين المدنيين بمشاركة مغاوير البحر في عمليات البحث، سيطلبون اليوم أمرين: أولهما «إعداد تقرير مفصل عن عمليات البحث منذ بدايتها، يجيب عن تساؤلاتنا». أما الأمر الثاني فهو «تحديد لقاء مع المسؤولين والاستيضاح عن كل شيء يتعلق بالكارثة». ثمة ما هو مطلوب أيضاً، لكنه ليس طارئاً، وهو رفضهم يوم الحداد الوطني الذي اقترحته الحكومة. وهنا، يقول أحد أعضاء اللجنة من الأهالي: «لن نقبل يوم حداد في ظل التراخي والإهمال في البحث».
في المؤتمر الذي عقده الأهالي أمام المستشفى، أول من أمس، كثرت الأسئلة. بدت تلك الأسئلة أشبه بإدانات لأركان الدولة المكلّفين عمليات البحث، «فما لزوم التفتيش في الأيام العشرة، بعيداً عن مكان سقوط الطائرة؟ ولماذا مُنع غطاسو الدفاع المدني من المشاركة في انتشال الأجساد؟ ولماذا استعانوا بخبرتهم في جريمة اغتيال الرئيس الحريري، فيما لا يستعينون بهم في هذه الكارثة؟»، يسأل أحد أعضاء اللجنة الشيخ حسين الحركة.
تلك الأسئلة دفعت الأهالي إلى إعطاء المعنيين مهلة 48 ساعة تنتهي اليوم لتحقيق مطالبهم، وخصوصاً البند المتعلق بالغطاسين، وإلا فالتصعيد «سيكون تحصيل حاصل». لهذا التصعيد أشكال مختلفة، يقترحها الأهالي، ربما تكون باكورتها «قطع الطرقات» كما تقول إحدى نساء لجنة المطالبة.
أنهى الأهالي مطالبهم، مفسحين في المجال أمام الجالية الإثيوبية للحزن، من خلال مراسم تأبين ضحاياهم الخمس أمام مدخل المستشفى (اسيفا كاهساو وجليلا منجيشا ونيتسانيت منغيست وتيغست هاغانا وسيبليه جيبريوهانيس).
في صورتها التي حملتها صديقتها أمام نعشها، تبدو ضحكة «تيغست» ويدها المرفوعة، أقوى من الموت. كان لهذه العاملة قصة شبيهة بقصّة الكارثة التي أودت بحياتها: قصة أبشع من الموت في البحر. دموع صديقتها لا تدل على الحزن، بقدر ما تخرج حنقاً على ظلم ذاقته تيغست في حياتها. كل عاملة تشعر بأنها تيغيست، وأن ما حل بالفتاة العشرينية، يمكن أن يطالها.
تيغست، عاشت في لبنان سنة كاملة. نصف هذه السنة عاشته عند رب عملها، الذي حرمها من راتبها طوال هذه المدة، وحين اعترضت، كان جزاؤها قضاء ليلة في صندوق السيارة، قبل أن ترمى في أحد الشوارع. استفاقت من غيبوبتها، ووجدت نفسها على سرير إحدى دور الرعاية. هناك، عاشت نصف عام أيضاً. وحين قررت العودة إلى بلادها، تواطأ القهر مع البحر، فأهداه جسدها. بكاها أبناء جاليتها الحاضرون، كما بكوا الأربعة الآخرين، فاحتل صوتهم فضاء المستشفى، ومع كل نعش كان يخرج باتجاه سيارات نقل الموتى، كان النحيب يشتد.
إثيوبيا لن تتسلم الجثث المتبقة إلا عند عودة الطبيب من أديس أبابا
فمنذ ساعات الصباح الأولى، تقاطر الإثيوبيون بالعشرات إلى باحة المستشفى، بعدما أبلغتهم القنصلية بموعد انتقال الجثامين إلى المطار، تمهيداً لنقلها إلى المثوى الأخير في البلاد. كل واحد منهم يمارس طقس حزنه الخاص هناك: القنصل الإثيوبي يجهش بالبكاء. الراهب يصلي للضحايا. العاملات يبكين، وإحداهن ترفع صليباً مرسوماً بالورود كتب عليه: «إلى كل شهداء الطائرة الإثيوبية». بعد إخراج النعوش، سار الإثيوبيون خلف السيارات التي تقلّ ضحاياهم، وودّعوهم حتى باب المستشفى. ومن هناك توجه الموكب بحماية أمنية نحو المطار. أمس، وصل الضحايا إلى إثيوبيا صباحاً، وتسلّم ذووهم جثامينهم بعد تأبين رسمي أعدّ لهم في مطار أديس بابا. أمّا عن الجثث الباقية للإثيوبيين في مستشفى بيروت، حتى الآن، فعددها سبع. ويقول القنصل الإثيوبي في لبنان أسامينو بونسا لـ«الأخبار» إنه «لن نتسلّم الجثث الباقية إلا عند عودة الطبيب المكلف في اللجنة الإثيوبية من إثيوبيا، حيث رافق الجثامين إلى هناك». ويشير بونسا إلى أنه «سيتم العمل على التأكد من الهويات، ومن ثم سنقوم بالإجراءات اللازمة لنقلهم إلى إثيوبيا».

صور تستعيد أبناءها

تستعدّ بلدة حناويه (آمال خليل) ظهر اليوم لدفن ابنها الضحية عفيف كرشت، كما تضمّ ثرى مدينة صور الضحية الشاب مصطفى هيثم أرناؤوط. فيما بلدة العباسية سبقت البلدتين، فدفنت ثلاثة من أبنائها، وهم: د. تنال فردون، محمد البزوني وخليل صالح. لكن غضب آل صالح من الدولة لم يُدفن مع ابنهم الأكبر. هم يشعرون بالغبن من المعنيين بأعمال البحث، إذ يتهم شقيق الضحية حمزة «الجميع بالتقصير المتعمد واستغلال دماء الضحايا للكسب المادي».
لن ترتاح العباسية نهائياً، إذ ينقصها «ابن» رابع هو عباس حويلي الذي لم تتبلغ عائلته حتى اليوم العثور أو الاشتباه بأشلاء قد تعود إليه. حالها تشبه حال بلدات صور وحناويه أيضاً وجويا ودير قانون رأس العين وزبقين والبازورية والخرايب التي تنتظر عشرة من أبنائها بعد.
أما بلدة وادي شحرور في قضاء بعبدا، فقد ودعت أمس ابنها أسعد الفغالي في مأتمٍ حاشد في كنيسة مار أنطونيوس الكبير. وقد حُمل الفغالي على الأكف في نعش أبيض مزين بالزهور، ووري في الثرى في مدافن العائلة في البلدة. وفي بلدة مزرعة الشوف، أقام الأهالي صلاة الغائب عن روح الضحية فارس ذبيان الذي لم تظهر أشلاؤه بعد.
إلى البحر، حيث لا تزال عمليات البحث تتركز في المنطقة التي وجد فيها حطام الطائرة. ولم تسفر تلك العمليات عن أية أخبارٍ جديدة عن الذاكرة المفقودة التي لا تزال إلى الآن أسيرة البحر. أما بالنسبة إلى الأشلاء، فلفت مدير التوجيه في قيادة الجيش إلى أنه «انتشلت أشلاء أول من أمس وأمس، وسترسل إلى المستشفى بعد توضيبها في القاعدة البحرية».
من جهةٍ أخرى، لفت مصدر مطّلع في المختبرات الجنائية إلى أنه «تم حتى عصر أمس التعرف إلى هوية 50 عيّنة من الأشلاء بين لبنانيين وأجانب». ولئن كان المصدر قد أشار إلى أنه «تم التأكد من جثث ثلاثة لبنانيين، هم: عماد أحمد حاذر، حنا نخول كريدي وجمال علي خاتون، على اعتبار أن وزارة الصحة تكون قد بلّغت إدارة المستشفى والأهالي أيضاً»، إلا أن وزير الصحة محمد جواد خليفة آثر الصمت، تاركاً حرية تأكيد الأسماء لعائلاتهم. كما أن إدارة المستشفى رفضت إعطاء الأسماء التي جرى التأكد منها، نزولاً عند رغبة الأهالي أيضاً.
على صعيدٍ آخر، أعلن وزير العدل إبراهيم نجار، خلال خلوة قضائية أول من أمس، أنه «طبقاً لما تمّ إقراره في المجلس الوزاري، تألّف الفريق القضائي الحقوقي الذي سيساند الدولة اللبنانية وكل المهتمين بموضوع سقوط الطائرة الإثيوبية». ويضم الفريق «قضاة ومتخصصين في النقل الجوي والتأمين وقضايا الأحوال الشخصية والجنائية»، ويعقد أول اجتماعاته، ظهر اليوم في حضور النائب العام التمييزي.


فوضى تؤجّل تشييع الحاج علي

حضرت أكاليل الرؤساء الثلاثة، ولم يحضر جثمان حسين الحاج علي، برغم الاستعدادات لتشييعه أمس في النبطية (كامل جابر). التأجيل اتخذ بصورة مفاجئة، فالعائلة التي توجهت منذ الصباح إلى بيروت لإحضار الجثمان عادت من دونه. ويقول شقيق الضحية علي «حصلت فوضى في المستشفى، ولن أقول أكثر من ذلك». لم يقل الحاج علي أكثر من ذلك، مصرّاً وابن خالته حسين جعارة «على الاحتفاظ بمعلومات ما حصل، كي لا يتعسّر أمرنا». أما في مسقط رأس الحاج علي، فقد دار كلام عن «أن عائلة الضحية عاينت أشلاء لم تكن هي عندما ذهبت لتسلّمها أمس، ما كان سيسلّم للعائلة أشلاء بسيطة جداً»، يقول أحد سكان البلدة. وبحسب الحكم الشرعي «لا يمكن تشييعها، هذا ما أبلغه إمام المدينة الشيخ عبد الحسين صادق للعائلة».
الأشلاء التي عاينتها العائلة سابقاً كانت تتضمن قفصاً صدرياً «يمكن غسله وتكفينه والصلاة عليه. لكن الأشلاء البسيطة، وخصوصاً إذا كانت من لحم دون عظام، فتوارى من دون صلاة» بحسب الحكم الشرعي.