سعيد خطيبيإنّه الحلقة الأخيرة في سلسلة الجيل المؤسّس لتجربة الأغنية الوهرانية، أمّ موسيقى الراي. لقاؤنا به لم يكن معدّاً سلفاً، بل كان وليد المصادفة. التقينا الشيخ بلاوي الهواري في مدينة العلمة (شرق الجزائر). وجدناه في قاعة أحد المراكز الثقافية، جالساً على كرسيّ، يتصفّح مجموعة شعرية لكاتبة في مقتبل العمر. تأمّلنا لبرهة وجه الرجل ذي الشعر الرمادي والنظرات الطفولية. كان يبتسم حيناً ويتيه في ترديد بعض الأغاني القديمة حيناً آخر. بعد التحية، فاتحناه بالحديث: «مرّت سنوات وأغانيك يا شيخ تطبع مزاج جيل تلو آخر في الجزائر». رسم ابتسامة خجولة وأجاب: «الحمد لله... احنا درنا اللي علينا». بدا متحمساً لمجاراتنا في دردشة حميمة، وخصوصاً حين سألناه عن «ليبرتي»، آخر أسطوانات الشاب خالد (2009)، وما تضمنته من استعادة لأغانٍ من ريبرتواره. «زارني الشاب خالد قبل سنة في بيتي في وهران، وطلب مني إذناً بإعادة تأدية بعض الأغاني القديمة، مثل «راني محيّر» (أنا محتار)، «بويا كي راني» (أبي انظر إلى حالي) و«زبانة» (في تحيّة إلى المناضل الجزائري أحمد زبانة). الشاب خالد صوت مهم، ولم أندم لسماحي له بتأدية أغانيّ»، يسرّ إلينا.
رغم اعترافه بدور الشاب خالد في الحفاظ على طابع الراي الأصيل، إلا أن الهواري لا يحيد عن مواقفه الناقدة للميول الراهنة لهذه الموسيقى الشعبيّة. «لا بد من التفريق بين مختلف أشكال الراي المتداولة في السوق. هناك أنواع مختلفة. كثير من الإصدارات التي نستمع إليها لا تمتّ إلى الموسيقى الأصيلة بصلة»، يقول. يبدو الموسيقي العتيق مستاءً مما سمّاه «راي تجاري» بدأ بتبنّي كلمات مبتذلة منذ نهاية التسعينيات حتى مطلع الألفية الجديدة. «الفنان العاجز عن كتابة كلمات الأغاني يظل فناناً ناقصاً»، يجزم شيخ المغنى.
تراه لا يخفي مشاعر الحسرة أمام تنازل بعضهم عن تحمّل المسؤولية تجاه الكلمة واللحن: «إنّنا نعاني من حالة تقهقر موسيقي. مع ذلك، لا يجب أن نتنكر لمسؤولياتنا. انتشار الراي التجاري نابع أيضاً من تراجع حضور الشيوخ الحقيقيين». ويواصل حديثه نافياً ما يدور من أقاويل عن نيته اعتزال الفن: «صحيح أنّ حضوري الفني تقلّص خلال السنوات الماضية على نحو ملحوظ، إلا أنّ هذا لا يعني اعتزالي الفن. ما زلت أكتب وأؤلف وألحّن، لكنني فضلت الابتعاد قليلاً عن عالم الأضواء».
محادثة الهواري إبحار على ضفاف التاريخ الحديث للأغنية الجزائرية. فاتحنا بالخطوط العريضة لمشروع مذكرات يريده مخطوطاً رسمياً يوثق مختلف محطات الموسيقى الجزائرية. في مذكراته هذه، سيستعيد مسيرة قرن من الأغنية الوهرانية (ومعها أغنية الراي) التي ولج غمارها مطلع الأربعينيات من القرن الماضي، حين كان في العشرين مغنياً في مقهى والده «محمد التازي» (الطحطاحة ـــــ وسط وهران). يخبرنا أنّه سيكتب عن أول نجاحاته في أغنية «اسمع»، مردّداً مطلعها: «اسمع... اسمع... زينك فتّان... ما كانش كيفه في البلدان... اسمع يا سيد الغزلان». يغمر الحنين صوته وهو يستعيد البدايات مع أغانٍ يحفظها ويرددها كثيرون، على غرار «راني محيّر» (التي أعاد تأديتها رشيد طه)، والأغنية الشهيرة «المرسم» للشيخ الميلود ويقول مطلعها: «يا ذا المرسم عيد لي ما كان وين المرّو اللي قبيل هنا... يا ذا المرسم زدت لي تشطان فيك أنا والريم تلاقينا... ناس أختي ولاوا لي عديان وعلى تاج الغيد كرهونا». الأغنية نفسها شكّلت، مطلع الثمانينيات، أحد أبرز نجاحات الشاب خالد، وكذلك الشاب مامي.
ترك الشيخ بلاوي بصمات مهمة على الأغنية الجزائرية، وأدرج لون السماعيات الموسيقية، وابتكر ربع المقام، وأنجز أكثر من 500 أغنية... رغم كل ذلك، يبدي الكثير من التواضع المشبوك بالاحترام تجاه شيوخ آخرين من جيله على غرار الراحل أحمد وهبي. «كان صوتاً مميزاً»، يقول.
كان والد الهواري عازفاً على آلة الكويترة، فيما برع أخوه قويدر بلاوي في العزف على آلتي البانجو والماندولين. إضافةً إلى اشتغاله حاجباً في ميناء وهران عام 1942 لدى إنزال قوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، أسس أول فرقة موسيقية عصرية عام 1943، ومن ثمّ سجّل أول أسطوانة له بعنوان «45 لفة» عام 1949 مع شركة Pathé Marconi الفرنسية.
ستنأى مذكرات الهواري عن الأسئلة السياسية التي واكبت مسيرته الفنية. ينفي ضمناً حقيقة وقوع خلاف بينه وبين نظام بومدين خلال الستينيات، ويتحدث بإسهاب عن ذكرياته مع الشهيد أحمد زبانة: «إنّه صديق طفولة... كان كل منّا يعرف الآخر حق المعرفة. وأذكر أني صدمت بسماع فاجعة استشهاد الرجل على المقصلة». تلك الفاجعة قادته إلى تلحين إحدى أشهر أغانيه «زبانة» التي كتبها الشريف حماني، ويقول مطلعها: «يا ذبايلي أنا على زبانة».
على قائمة المشاريع اليوم، إلى جانب مذكراته، ينوي استعادة علاقته مع نصوص وأعمال الشيوخ التاريخيين للأغنية الوهرانية، على غرار الشيخ حمادة، وعبد القادر والهاشمي بن سمير وغيرهم. هكذا يعيش الشيخ بلاوي مرحلة التقاعد، هو الذي أبصر النور في السنة نفسها التي شهدت ولادة رجالات عظماء، أمثال: فيديل كاسترو، ويوسف شاهين وميشال فوكو، وعمل منذ مطلع الستينيات قائداً لـ«الأوركسترا السمفونية للإذاعة والتلفزيون في الجزائر».
مصادفة خير من ميعاد، نفكّر ونحن نودّع الشيخ الوقور الذي يختصر وحده جزءاً مهماً من التراث المغاربي، هو الذي ما تزال بصماته جليّة على الحركة الموسيقية الجزائرية بمختلف تجاربها. وقد أعاد الشباب اكتشافه كأحد المجددين في الأنماط الموسيقية، ليس جزائرياً فحسب، بل مغاربياً أيضاً. آخر كلمات سمعناها منه كانت: «حان الوقت لكي نترك المجال أمام الجيل الجديد».


5تواريخ

1926
الولادة في مدينة
وهران (الجزائر)

1949

سجّل أول أسطوانة موسيقية بعنوان «45 لفّة»
مع شركة Pathé Marconi الفرنسية.

1967
تولّى قيادة «الأوركسترا السمفونية
للإذاعة والتلفزيون في الجزائر»

2001

سجّل آخر أسطواناته وضمّت أعمالاً من تلحينه

2010

يتفرّغ لكتابة مذكّراته بعدما حيّاه الشاب
خالد العام الماضي باستعادة بعض أعماله
في أسطوانة «ليبرتي»