دخان كثيف يتصاعد من جانبي الطريق، ورائحة شهية لا تقاومها إرادة جائع. شارع الغازية الصناعي، شارع المشاوي، الخط القديم، أسماء كثيرة لشارع يكتظ بالملاحم ويقصده لبنانيون من مختلف المناطق شمالاً وجنوباً
مايا ياغي
طبق من المشاوي المختلفة. «شقف، كفتة» أو بعض أنواع اللحم النيء «فراكة، كبة، ملسة، لحمة مدقوقة، أو عالسيخين». إلى اللائحة الطويلة، تضاف «عرايس اللحمة»، وهي خبز محمص يحتوي لحماً، بينما تتفنن بعض الملاحم بتقديم مأكولات أخرى إلى جانب المشاوي كالسلطات والبطاطا المقلية والحمص، واللحم بعجين أو الصفيحة بالنسبة لبعضها الآخر.
ويختلف نوع اللحم من ملحمة لأخرى، فمعظم الملاحم الموجودة في ذلك الشارع تقدم لحم الغنم وقليل منها فقط تقدم العجل.
وقد أصبح هذا الشارع مركزاً للملاحم بحيث يحوي على أقل تقدير ما يقارب خمس عشرة ملحمة متلاصقة قد يتعذر على المار تمييز بعضها عن بعض، وخصوصاً أن أسماء ملاكها تتشابه إلى حد كبير، من «ملحمة النابلسي الشهيرة» إلى «ملحمة النابلسي الشهية»، تختلط العناوين. تفتح معظم تلك الملاحم أبوابها 24 ساعة، فيما عدا القليل منها تغلق عند الثانية عشرة مساءً، فيما تشهد ذروة الزحمة من الرواد أيام السبت والأحد.
«ملحمة جبل عامل» كانت هي الأولى بتعبير معظم الناس من سكان ورواد. الحاج عبد مروّة هو صاحب الملحمة افتتحها منذ عام 1976 حيث كانت ملحمة بسيطة تقدم لحم العجل واللحم بعجين الذي يطهى في فرنية صغيرة تحتويها. وهي لم تقدم المشاوي أبدا، بل اقتصر نشاطها على بيع لحم العجل، لكنها اكتسبت شهرتها من اللحم بعجين الذي تقدمه، بالإضافة إلى رخص أسعارها، ما يجعلها مقصداً للعائلات الكبيرة «لأنها أوفر من غدا المطعم بكتير. دزينة اللحم بعجين بخمسة آلاف ليرة وبتكفي شخصين على الأقل» كما يقول حمزة مروّة، أحد العاملين في الملحمة.
«ملحمة الضيافة» هي الأقرب إلى «ملحمة جبل عامل»، لكنها تختلف عنها في ما تقدمه: المشاوي على أنواعها وبعض السلطات والأهم سلطة البصل والبقدونس. محمد عطية، الموظف فيها، يجد المنطقة «عامرة جداً»، بالأخص لأنها منطقة صناعية وممر حيوي بين العاصمة والجنوب. ويضيف «نشدّ الزبون برائحة المشاوي، حيث نشعل الفحم ونضع بينه قطعة دهن لتفوح منه رائحة شهية مع الدخان المتصاعد». البلدية حاولت كثيراً منع الكوانين لكن لا يكاد عناصرها يختفون حتى تظهر مجدداً ولا أحد يلتزم بالأوامر لأن موضوع الدخان أصبح بالنسبة لأصحاب الملاحم جزءاً من سرّ المهنة لا يمكن التخلي عنه.
يشرح علي نابلسي أن «ملحمة النابلسي الشهيرة تأسست عام 1968، وبالتالي هي الأقدم بين هذه الملاحم»، رغم إجماع الكثيرين على أقدمية ملحمة جبل عامل. وقد يكون اسم ملحمة النابلسي الشهيرة على مسمى، إذ تتضح شهرتها من كم الزبائن داخل الملحمة ومن عدد السيارات الكبير خارجها. عن سبب هذه الشهرة يقول علي: «أردنا تغيير مقولة إنو اللحام بيغش مرتو أو حالو. أردنا جعل اللحّام من أكثر المهنيين مصداقية وعملنا على هذا الموضوع من خلال ما نقدمه، فالملحمة لا تشتري اللحم المستورد أبداً بل تربّي المواشي وتأخذها لذبحها في المسلخ في الغازية. عمر الخروف لا يتجاوز العام الواحد، ونقدم جميع أنواع اللحم».
جودة اللحم، مدى صحيته، أمور لا يدقق فيها المواطن العادي دائماً، ومع أن الناس في هذه الأيام «بتعرف طعمة تمها» كما يقول المثل الشعبي، إلاّ أن الكثير من الخروقات تجري بوضوح وصراحة، رغم أن وزارة الصحة تراقب اللحوم في المسلخ، وتعطي تصريحاً بصحتها ولكن هل يكفي هذا؟
تزداد أهمية هذه القضية في لبنان حيث يقبل الناس بكثافة على تناول المشاوي. فاللحوم هي من المأكولات الغالية الثمن لكنها تبقى مع ذلك من الأطباق المفضلة لدى اللبنانيين. لذلك، يقتضي، على الأقل، الانتباه لأمور عدة في ما يتعلق بها: فبين لحم الغنم ولحم العجل مثلاً، هناك أفضلية. «من ناحية السعرات الحرارية لا فرق»، كما تقول اختصاصية التغذية حوراء شمس الدين، التي تشرح أن السعرات الحرارية والمكونات الغذائية من بروتين، وفيتامين B، وكوليسترول وحديد هي ذاتها في جميع أنواع اللحوم، إلا أن ما قد يحدث فرقاً هو وجود كمية الدهن فيه. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن الخروف يذبح باكراً قبل أن يتجاوز عامه الثاني، أما العجل فإنه يعيش لأطول فترة بهدف زيادة وزنه. ولأن عضلات الخروف لا تكون متشنجة في هذه السن الصغيرة، يكون لحمه أطرى بكثير من لحم العجل، وهذا ما يجعله موضع استحباب لشريحة أكبر من الناس. استحباب غير خطير، فتناول اللحم مطلوب دورياً في غذائنا ولكن بشرط أن يكون خالياً من الدهن.