قبل أعوام كانت بساتين اللوز هنا توفّر لأصحابها دخلاً يمكن الاعتماد عليه. لكن الأمور اختلفت مع التغير المناخي، فدفء «فحل» الشتاء وتقلبات شباط الباردة والدافئة، جعلت الذعر يدب في قلوب المزارعين، الذين بدأوا فعلياً بالتخلي عن زراعات ربيعية لمصلحة أخرى صيفية
البقاع ــ رامح حمية
احتارت أشجار اللوز. أهو الربيع أم لا؟ أخرجت أكمامها مرة تلو مرة منذ كانون، لتعود فتفقدها بعد أيام. أما أحوال المزارعين؟ فليست أفضل حالاً. فتغيرات المناخ الأخيرة بدأت تغير لون وجوههم مع تكرار خساراتهم مواسمهم مع كل بسمة طقس دافئ تتبعها عبسة صقيع لا يرحم. هكذا بدأت آمالهم بغلّة مقبلة وفيرة تتضاءل، ومع تفتح البراعم بدءاً من منتصف كانون الثاني، طارت الفرحة عن الوجوه المترقبة.
إذاً، أشجار اللوز التي تفتحت أزهاراً بيضاء ناصعة قبل أسابيع، وخاصة أنها من باكورة الأشجار التي تثمر، لم يكتب لها أن تصبح حبات خضراء، فتحولت إلى زهيرات سوداء ذابلة بعدما غشها كانون، فباتت تنتظر نسمة هواء خفيفة تسقطها عن أمها بالضربة القاضية. قضى تناوب الحر والصقيع على ما نسبته40% من موسم المزارعين في البقاع. أما اليوم فها هو شهر شباط يتقن بتقلباته الإيقاع بالقسم الباقي من أشجار اللوز. فارتفاع درجات الحرارة، سمح بتفتيح الأشجار التي لم تزهر في الفترة السابقة، ليكتمل بذلك مشهد الخسارة بالنسبة لأصحاب بساتين اللوز، الذين أكدوا أن مصير هذه البراعم سيكون بالتأكيد الموت المحتم أيضاً، لأن الشتاء «لم ينته بعد وهيدا شباط اللي ما في على كلامو رباط»، كما يقول مصطفى أمهز الذي أكد أن الموسم انتهى فعلياً ببدء تفتح بقية البساتين، متنبئاً بسوداوية أن مزارعاً واحداً لن يستفيد من حبة لوز هذا العام، «لإنو ببساطة ما في موسم»، إلا ما ارتفع عن سطح البحر لدرجة ضمن معها برودة نسبية أخّرت إزهاره.
الكارثة لم تقتصر على بلدة دون أخرى، بل امتدت لتشمل كل بستان في معظم القرى بنسبة لا تقل عن 90%. فقد لفت حسين الطقش مثلا أن ما يقارب 40% من بستانه أزهر في كانون الثاني، أما الباقي فأزهر منذ يومين، وأصبحت أي موجة صقيع كفيلة بالقضاء على الأزهار البيضاء الباقية، وهو الأمر المؤكد لأن العواصف الثلجية والصقيع لم تتعرض لهما المنطقة بعد، وبعد ذلك ستتحول هذه البراعم سوداء لا حياة فيها، لأن حباتها لم «تعقد» بعد.
«التغيير الذي طرأ على مناخ البقاع هو السبب الأساسي في الخسائر التي يتعرض لها أصحاب بساتين اللوز»، يدرك أحمد حمية، الذي يعمل في تشحيل الأشجار، هذه الحقيقة من خلال خبرته الطويلة وقربه الدائم من الأشجار على أنواعها. ويرى الرجل أن الأمور قد تزداد سوءاً إذا ما استمر المناخ بتقلبه الحاد ذاك، فعندها «لن يقتصر الأمر على اللوز فقط بل سيمتد ليشمل المشمش والدراق وغيرها من الأنواع التي تزهر في الربيع» كما يقول متشائماً. أما عن اللوز فيؤكد أن الموسم تلقى «ضربة قاضية»، معتبراً أنه «انتهى فعلياً» سواء بالنسبة للبساتين التي تفتحت وذبلت بعد العاصفة أو التي تفتحت منذ أيام، ذلك أن فترة الإزهار الطبيعية تبدأ بعد فترة «مستقرضات الروم» أي في النصف الثاني من آذار، فيما حبة اللوز تحتاج إلى ما يقارب الشهر بعد إزهارها حتى «تعقد» وتنضج وتبتعد عن مرحلة الخطر من الصقيع، ما يعني أن البراعم التي تفتحت ينبغي ألا تتعرض حتى للصقيع؟ «فكيف ذلك ونحن ما زلنا في منتصف شهر شباط!».
وإذا كانت خسائر العام الماضي الناجمة عن تفتح براعم اللوز باكراً وذبولها بعد تعرضها لعواصف شهر شباط، قد دفعت عدداً كبيراً من أصحاب أشجار اللوز إلى اقتلاعها واستعمالها أو بيعها حطباً، واستبدالها بنصوب الزيتون، فإن من أبقى على تلك البساتين تملكه الندم، لكونه لم يقدم كما غيره على هذه الخطوة. هكذا تضرب الحاجة فاطمة سماحة، التي خسرت موسمها بكامله بهذه الطريقة، كفاً بكف، مبدية الأسف لأنها لم تستمع لعدد من المزارعين الذين قدموا لها النصيحة باستبدال أشجار اللوز بنصوب الزيتون، والهروب من دفء كوانين وصقيع شهري شباط وآذار. «لا ثمار ولا إنتاج لوز لهذا الموسم»، تقول سماحة، وتفكر بصوت عال أن المبلغ الذي كانت ترصده للأيام السوداء من «ضمان» البستان، قد «طار» بعدما كانت تعول عليه لسداد بعض الديون المستحقة عليها.
حسين حيدر الذي أبقى في بستانه على «100 كعب لوز» وتخلى عمّا يقارب 250 أخرى، واستبدلها بنصوب الزيتون، أمل بذلك إبعاد شبح الخسارة التي تلاحقهم باستمرار، سواء من الطقس وللعام الثاني على التوالي، أو من الأسعار ومنافسة اللوز السوري. ورأى أن المشكلة تنطوي خلال هذه الفترة على عوامل الطقس الآخذة بالتغير عاماً بعد عام، «فالبقاع لم يعد يتعرض للعواصف والقساوة بأشهر الشتاء (كوانين) بل في شباط وآذار وحتى نيسان الذي شهدنا فيه عواصف وصقيعاً في الأعوام الماضية»، في الوقت الذي تعتبر فيه شجرة اللوز من باكورة الأشجار التي تعطي إنتاجاً في البقاع، وهي عكس الزيتون الذي يتأخر عن فترة الصقيع، مبدياً تخوفه من أن تطال موجات الصقيع أشجار المشمش والإجاص أيضاً لكونه يلي اللوز بالإنتاج.
بعض أصحاب البساتين، ارتأوا «هروباً» من الصقيع، تشحيل بساتينهم بعدما لاحظوا أن البراعم بدأت تتشكل، وخصوصاً بعد موجات الدفء في شهر كانون الثاني، إلا أن هذه الطريقة لم تثبت فاعليتها لأن البراعم الباقية بدأت مرحلة ظهور اللون الأبيض فيها، ما يعني أنها ستتفتح مع مرور أيام دافئة.
يجمع غالبية مزارعي اللوز على أن الموسم انتهى كلياً بأضرار وخسائر كبيرة، وأنهم فعلياً تلقوا «ضربة قاضية»، ولا بد من أن تنظر إليهم الدولة بعين التعويض عن كارثة طبيعية.


الزيتون هو البديل

ليس الموسم الأول الذي تبيده التغيرات المناخية. ربما من أجل ذلك، تبدو نصوب الزيتون كأنها غزت فعلياً وبكثافة غير مسبوقة أراضي البقاع الشمالي، وخاصة أن سائر المزارعين من أصحاب كروم العنب وبساتين اللوز قد لجأوا إلى نصوب الزيتون بديلاً فعلياً، كما يشير مهدي شداد وهو صاحب «برّامة» للحفر للنصوب، فقد حفر في الفترة الممتدة من شهر كانون الأول وحتى بداية شباط لغرس ما يقارب 12 ألف نصبة زيتون في محيط ثلاث بلدات هي طاريا، كفردان وبيت مشيك.