يتخطى موضوع تعيين مدير عام للآثار إطاره الإداري، ليُبرز إلى العلن سياسة الدولة تجاه هذا الملف الذي يطال في آن واحد، التاريخ والأبحاث العلمية التي تدور في فلكه من جهة، والوجه الذي يريد لبنان أن يسوّقه لنفسه عبر السياحة من جهة ثانية.نبدأ من التاريخ، وكلّنا يعرف أن الأهمية التاريخيّة للبنان ليست موضوع نقاش بين أبنائه أولاً، ولا بين أهل الاختصاص ثانياً، لكن على الرغم من ذلك نجده الغائب الأكبر عن ساحة الاكتشافات الأثرية والدراسات العلمية في منطقة الشرق الأوسط. وفيما تخوض كلّ من إسرائيل وسوريا حرباً ضروساً وتتنافسان على الاكتشافات الأثرية وأهميتها في كتابة تاريخ البشرية، يعمل لبنان بدأب على تدمير مواقعه الأثرية، وخصوصاً تلك المكتشفة أخيراً. حتى في إطار الدراسات والمؤتمرات العالمية، ترسل كلٌّ من الدولتين بعثات تنطق باسم دولها، ويقف العلماء من الفريقين متجابهين، متمتعين بكامل دعم دولتيهما، فيما تقتصر المشاركة اللبنانية على الأفراد.
أما على صعيد السياحة، فنحن نرى كيف تسوّق إسرائيل نفسها باعتبارها «أرض الأديان»، وسوريا «أرض الحضارات»، والأردن «أرض السلام والتلاقي». أما لبنان، فيبدو من الإعلانات، أنه أرض «الأكل والسهر واللهو»، والآثار «للتفنيص» فقط. ذلك أن الدولة اللبنانية، باختلاف الحكومات التي تعاقبت عليها، لم تعطِ لموضوع الآثار أي أهمية تذكر منذ نهاية الحرب، لا بل كان التعامل معها باعتبارها من الكماليات التي لا يمكن الاهتمام بها.
من هنا يأتي موضوع تعيين مدير عام للآثار ليكشف سياسة الدولة الحالية. فتعيين مدير عام يعمل على تنشيط القطاع وتفعيله، ويعطي المديرية صلاحيات وتسهيلات للمحافظة على الآثار بات ضرورة حتمية. والخوف كلّ الخوف من اعتماد «التوافق» في تعيين مدير عام قد يتابع الملفات على قاعدة «الحجارة القديمة لن تجذب لنا المزيد من المتاعب».
تعيين مماثل سيكون تصريحاً واضحاً بأن لبنان لا يهتم بالثقافة ولا بالتاريخ، ولا يعنيه من السياحة إلا الجنسية منها، وهي التي لا تكلّف الدولة أية أموال وتدر عليها الكثير، وتتماشى كذلك مع سياسة الازدهار العمراني. عندها يجوز طرح السؤال: لماذا لا تقرّ الدولة بأنّ ما لديها لتقديمه إلى السيّاح لا يتجاوز الحمّص والحياة الليلية؟ لماذا هذا الاختباء وراء الأصبع والاستمرار في التأكيد أن لبنان دولة تاريخية عريقة؟
اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، باتت أرض الكنعانيين والفينيقيين مهدّدة. إنها على شفير الانزلاق إلى هاوية النسيان والاندثار، فإذا كان هذا هو الهدف فلندفن مواقعنا الأثرية، أو لنتركها دفينة الأرض، وليذهب علماؤنا إلى العمل في مدن جديدة، تناضل لاختراع تاريخ وهوية يبرزانها على الخريطة... وتنجح.
جوان...