قد يُعَد مؤتمر «جدلية العلاقة بين الفقه والفلك» الذي عُقد في بيروت يومي الخميس والجمعة الماضيين أنه «فخ علمي» استُدرج إليه المدعوون إليه من الفقهاء، حين اكتشف الفلكيون أن الفتوى تحنّ إلى الفلك... ولكن!
منهال الأمين
على مدى يومين، تحاورت مجموعة من علماء الفلك والفقهاء حول طاولة مستديرة، بدعوة من مؤسسة الفكر الإسلامي المعاصر، إحدى مؤسسات المرجع السيد محمد حسين فضل الله، الذي تغيَّب عن الافتتاح بداعي المرض، وأوفد نجله السيد علي. كذلك كانت كلمة لمؤسسة الفكر ألقاها د. نجيب نور الدين وأخرى لمفتي طرابلس والشمال الشيخ مالك الشعار، وكلمة مرتجلة لممثل مفتي عُمان، كهلان الخروصي (المذهب الإباضي). وفيما حضر الافتتاح ممثل المرجع السيستاني في بيروت، حامد الخفاف، لوحظ غياب أي تمثيل للمجلس الإسلامي الشيعي وكذا لحزب الله، وحضر بعض الأكاديميين والحوزويين بصفة شخصية، رغم توجيه المنظمين أكثر من «مئة دعوة» لشخصيات ومؤسسات معنية داخل الحزب، لكن من دون أن يكون لأحد كوادره الثقافية محاضرة رئيسية في الجلسات الخمس.
ومن أبرز المشاركين عضو الجمعية الملكية الفلكية في كندا، د. يوسف مروة، ورئيس المشروع الإسلامي لرصد الأهلة في الإمارات، المهندس محمد عودة، والفلكي الكويتي صالح العجيري، ورئيس الاتحاد العربي لعلوم الفضاء والفلك، الدكتور مسلّم شلتوت، وعضو الاتحاد خالد الزعاق (السعودية)، وأعضاء إيرانيون من مشروع تحديد الأهلة في الولايات المتحدة، تحدثت باسمهم الدكتورة شاييستي مهاني، التي عرضت حلاً متكاملاً وضعه المشروع لتحديد ولادة الهلال.
ومثّل الحوار الدائر حول «جدلية العلاقة بين الفلك والفقه»، عنوان المؤتمر، «فرصة» لانقضاض الفلكيين على نظرائهم من علماء دين، سُنة وشيعة، رغم أن معظمهم من مؤيدي فتوى فضل الله بالاعتماد على الحسابات الفلكية لتحديد بدايات الأشهر العربية، لما لذلك من تأثير على كثير من الشعائر الدينية. ورغم أن عدداً من علماء قُم لبّوا الدعوة، وبعضهم من مكتب المرجع الخامنئي، إلا أن الرأي الآخر يكاد يكون شبه مغيّب، باستثناء السيد علي الأشكوري (مكتب خامنئي) الذي مارس «الشغب» العلمي في مناقشة اعتماد الفلك، حين حاول في تعليقه على المتحدثين، أو من خلال مداخلته حول «الرؤية بين الطريقية والموضوعية»، تأكيد مسلّمة عدم رفض الفقه للحسابات الفلكية، بل حتى الذهاب إلى القول إن علم الفلك كان سابقاً جزءاً من مناهج الحوزة الدينية لسنين طويلة. وهو ما دعا إليه البيان الختامي للمؤتمر لناحية «إعادة تضمين العلوم الفلكية في المناهج التعليمية للمعاهد الشرعيّة».
ودعا الأشكوري إلى «تثقيف الناس على الشريعة، لا وفق رغبات الشباب ومتطلبات العصر»، لأن الثقافة الدينية تخفف من حدة الخلاف الذي نشهده اليوم على مسألة الهلال وبقية المناسك، فالجدال عادة يخرج عن إطاره العلمي إلى حد التراشق الإعلامي، فيما «الصيام فريضة لا تؤدّى بالتظنّي، وإن كان لا بأس بالتوسّع بمعنى الرؤية».
وشهدت وقائع اليوم الثاني من المؤتمر نقاشات حامية، صبت في الإطار ذاته، لكن مع تراجع الحضور العلمائي السني تراجعاً كبيراً. وذكر المؤرخ الشيخ جعفر المهاجر أن الشيخ بهاء الدين، أحد كبار مراجع الشيعة «كان فلكياً مشهوراً، وهو أول من رفع الصوت للأخذ بالحساب في مقابل الرؤية، فإذا كان السلف الصالح قد أطلق حرية البحث، فلماذا نضيّق على أنفسنا؟».
كذلك، برزت دعوات للتوسع في اعتماد الحسابات الفلكية، ما يرتّب تقويماً قمرياً ثابتاً، يشابه التقويم الشمسي، وهو رأي يدعمه د. يوسف مروة ود. أحمد شعلان وآخرون (انظر الإطار).
القرار السياسي هو الذي يحدد مواعيد الصوم والإفطار
وكان لافتاً ضيق صدر مديري الجلسات وعدد من المشاركين وحتى المنظمين، بمداخلات المدافعين عن نظرية الرؤية، فيما كان المجال يتسع كثيراً لاسترسال الفلكيين، أو العلماء المؤيدين لأفكارهم، وهو ما اعترف به المنظمون الذين ردوا الأسباب إلى غياب المشاركين من أصحاب الرأي الآخر، كنجل المرجع إسحق الفياض من الكويت. ورغم اعترافهم أيضاً بأن هؤلاء لم تفرد لهم مساحة كافية في جلسات المؤتمر، كمحاضرين رئيسيين، والحاضرون منهم اضطروا في كثير من الأحيان إلى الوقوف موقف الدفاع في أكثر المداخلات التي قدّمت في المؤتمر، ومعظمها من علماء فلك عرب وغير عرب حضروا خصيصاً للدفاع عن المدرسة القائلة باعتماد حساباتهم، وعدم تقديس الرؤية، وبالتالي «الهجوم» المنظّم من جانبهم على القائلين باعتماد الرؤية وفق إجماع الفقهاء.
ومن الأمور التي كانت محل أخذ ورد، البحث في ما يعدّه البعض تناقضاً في اعتماد المراجع على الفلك لنفي شهادة الرؤية، إذا ما ناقضت الحسابات الفلكية، وفي المقابل عدم أخذه بها لإثبات «تولّده» بالمصطلح الفقهي أو «اقترانه» بالمصطلح الفلكي. وأشار المهندس محمد عودة إلى أن رصد تحديد بدايات الأشهر العربية على مدى نصف قرن مضى، كما أُعلنت رسمياً في الدول العربية، يظهر خللاً بنسبة تتجاوز 60%، لأنها كانت تقترن بعبارة «ثبت بالدليل الشرعي رؤية هلال شهر كذا...»، مع أن الحسابات الفلكية كانت تثبت استحالة الرؤية إطلاقاً. وهو لفت، كما أكد آخرون كثر، إلى أن القرار السياسي في عدد من الدول العربية، كان له الباع الطولى في تحديد مواعيد الصوم والإفطار، على الرغم من تكوين اللجان، بعضوية علماء وفلكيين، إلا أن القرار «يأتي دائماً من فوق».
وفي هذا السياق، أشار قاضي صيدا الشرعي السابق الشيخ أحمد الزين إلى أنه كان عضواً في لجنة تابعة لدار الفتوى للتثبت من هلال العيد، وجاء الخبر أنه ثبتت رؤيته في الشام، إلا أن الرد كان: «نحن ننتظر القاهرة حتى تعيّد»! وتحدّث آخرون عن تأثير السعودية على عدد من الدول العربية والإسلامية في الصيام أو الإفطار. وكذلك النموذج «الشاذ» عن كل القواعد الذي تتبعه ليبيا، وهي في السنوات الماضية «تغرّد دائماً خارج السرب». في خلاصة الأمر كانت الدعوة إلى تكامل الفقه والفلك على أساس التفهّم لمعطيات الطرفين. لذا، دعا المهندس عودة إلى النظر إلى جهد الفلكيين على أساس أنهم يقدّمون معلومات وحسابات دقيقة، «أمّا الحسم فهو للفقهاء، لأن لا طاقة للفلكيين في اتخاذ القرار هنا، وإن كانوا مطمئنين جداً إلى النتائج التي توصّلوا إليها».
وصدرت عن المؤتمر عشر توصيات أكد فيها المشاركون أنه «لا بدَّ للمؤتمر، بداية، من العمل الجديِّ لتوحيد زاوية النظر الفقهية إلى حقائق علم الفلك، والتمني على الفقهاء التعامل معها بجدية وموضوعية في استكمال بحوثهم الفقهية في تحديد بدايات الشهور القمرية. ودعوتهم إلى توحيد منهجيتهم في التعامل مع علم الفلك، لأن ذلك من شأنه أن يوحِّد المناسبات الإسلاميّة، وتأكيد ضرورة التواصل العلمي والحراك الفقهي بين أتباع المذاهب الإسلاميّة، والتشديد على التثبّت قبل قبول شهادات الشهود برؤية ولادة الهلال من تحقّق المتطلبات الشرعيّة وموافقة المعطيات الفلكيّة. وكذلك دعوة علماء الفلك والفقه إلى فتح المعابر المعرفيّة بينهما».


غرينتش إسلامي

رأى د. أحمد شعلان، عضو اللجنة الوطنية لعلم الفلك في لبنان، أنه «لو كان لدينا سلّم معياري صحيح للوقت، فلا بد من التمكن من توأمته مع التقاويم العالمية المتداولة، وأهمها التقويم الشمسي الميلادي. فنحن مضطرون إلى استخدام تقويمين لا يلتقيان على نحو مبرمج»، وستظل المشكلة معقدة «إذا لم نكن جاهزين للاجتهاد في نصوصنا المقدسة». واقترح لحل معضلة بداية الشهر القمري «أن تتزامن مع بداية يوم قمري، أي دائماً عند الغروب. وهنا نحن نحتاج إلى خط طول معياري لتحديد الغروب، إلى غرينتش إسلامي، أقترحه ماراً في الكعبة المقدسة. فإذا صادفت ولادة هلال شهرٍ ما في الليل بعد غروب الشمس خلف أفق الكعبة، يُلحق هذا الليل بروزنامة الشهر الجديد ويكون بدء هذا الشهر الجديد ساعة الغروب التي سبقت. وإذا صادفت ولادة هلال الشهر الجديد في النهار، يُتبع ما بقي من النهار على الروزنامة إلى الشهر المنصرم وتعتبر بداية الشهر الجديد عند غروب ذلك اليوم. هكذا يصبح بالإمكان إطلاق تقويمٍ هجريّ عالمي».