ضحى شمسبكل بساطة، أشار الدركي الواقف وسط تقاطع الإذاعة اللبنانية إلى خط السير المتوقف لجهة اليمين أن في استطاعته أن يمشي. في هذه اللحظة بالتحديد، كنت قد أصبحت وسط الطريق، وبدقة أكثر، وسط معبر المشاة المخطط بالأبيض، محاولة وبضع مواطنين زملاء، العبور إلى الرصيف المقابل، بعدما أضاءت الإشارة الحمراء. وبالطبع، تجاوبت السيارات. فانطلقت هي الأخرى، متجاهلة وجود المشاة، الذين فرّوا أمامها، مسرّعين عبورهم إلى «اليابسة». لم يخطر في بال الشرطي أن وجود المشاة وسط الطريق مفروض أن يمنعه من تحرير السير، لأن في إمكان السيارات أن تقتل المشاة، الذين يعاملون في قانون السير كما يعامل العزّل والمدنيون في الحرب. بدا تصرّف الشرطي كمن يظن أن المشاة لا دخل لهم بقانون السير. كأن كل ما عليه أن يفعله كشرطي هو تنظيم مرور السيارات. كأن قانون تنظيم السير هو في الحقيقة قانون تنظيم عبور السيارات. لذلك، تسمّرت وسط المعبر، غير مصدّقة، أنظر إلى الدركي يومئ بذراعه إلى السيارات أن تواصل سيرها، ميكانيكياً، لعلّي ألمح على وجهه أي تعبير يشير إلى أنه تنبّه إلى ما يفعله، أي إنه يسمح للسيارات بأن تدوس المشاة خلال عبورهم، لكن لا شيء. جلّ ما فعله أنه نظر إليّ بانتباه أكثر حين لاحظ أنني لا أتحرك، غير عابئة بأبواق السيارات الغاضبة لدى مرورها في محاذاتي. نظر إليّ، فرآني محدّقة إليه، متسمّرة. ولعله ظنّ أن كيوبيد رشقني بسهم فانصعقت لجاذبيته من النظرة الأولى، فالتوى طرف فمه بابتسامة حاول أن يخفيها، واستمر، في الوقت ذاته، «يعزم» السيارات «ببراءة» لإكمال سيرها، على جثتي، مبدئياً.
كان الشاب، جاهلاً، بكل بساطة، بقانون السير، العمود الفقري لعمله، الأمر الذي من المفروض أنه مرجع فيه، وأنه حكم. ولم يكن هناك أحد ليحمي المشاة العزّل، وحتى السيارات، من جهله هذا. الشرطي هذا ليس استثناءً، للأسف. فمواقف مشابهة تتكرر في كل مكان، بتنويعات مختلفة. ومن الممكن لأي كان أن يراقب فقط لربع ساعة، عشوائياً، في أي مكان، طريقة تسيير شرطة السير للسير، ليقع مغشياً عليه، من الضحك أو من الخوف. لكن أن تصل المواصيل بالشرطي إلى أن يمشّي السير خلال عبور المشاة! فهذا ليس ضعفاً في الأداء. هذه أمّية مهنية في غاية الخطورة.
دام وقوفي لحظات ربما، لكني فهمت أنه لم يفهم. عندها قررت أن أشرح. صحت به من مكاني: معقول اللي عم تعملو يا وطن؟ مش شايف الناس بنص الطريق وإنت عم تمشّي السيارات؟ بدك تقتلنا يعني؟ وإذ... تنقلب أساريره رأسا على عقب، فيشير باستخفاف بيده باتجاهي كمن يرد على إهانة «يللا... يللا... امشي»، فيما كانت دراجة نارية تمر عكس السير، نارياً، تحت أنفه تماماً.
رواية أخرى. في المكتب، كان الزميل المصوّر العائد للتوّ من موضوع كلّف بتصويره، غاضباً. الشاب مشهور بدماثته. أن يكون غاضباً يعني أن هناك ما يغضب فعلاً. يروي أنه كان في صدد التصوير في شارع مار الياس، وإذ بشرطي درّاج يتقدم ويسأله عما يفعله. بأدب وابتسامة، كعادته، أجاب الشاب بأنه مصوّر صحافي وأنه يصوّر المباني والشارع. قال له الشرطي إن التصوير ممنوع. ابتسم الشاب وقال للشرطي بهدوء: ممنوع لو كنت أصوّر مقارّ عسكرية، أو كنت أصوّر من الداخل ولم يكن معي إذن. أما التصوير هنا، فليس ممنوعاً. يطلب الشرطي بطاقته المهنية. ومع أنه لا صلاحية له في ذلك، يريها الزميل له. فما كان من الشرطي إلا أن طلب... هويته! حاول الشاب إفهامه أنه لا يحق له أصلاً التدقيق في هويته، فهو شرطي سير. صلاحياته أن ينظّم السير. لكن عبثاً. لا يريد الشرطي أن يفهم. يحتجّ بأنه سيسأل رؤسائه، ويتصل برئيسه ويقول له إن هناك شاباً (يصحّح له الزميل إنه مصوّر صحافي) يصوّر مباني (يذكّره الزميل بأنه يصوّر من الخارج) وليس معه إذن! أي إن الشرطي بطريقة إخباره رئيسه عن المشكل الذي خلقه لأنه جاهل بصلاحياته، أراد كسب تأييد رئيسه عبر تضليله بتزويده معلومات مجتزأة. أي إنه ليس أمّياً في شغله فحسب، لكنه يريد ممارسة نفوذ مستغلاً سلطته في غير مكانها، متنطّحاً لمهمات أمنية ليست من اختصاصه، وفوق الدكة يضلّل رئيسه ليقوّم كلامه. ينتهي المشكل بتجمّع الناس وبانصراف الزميل، الذي كان قد أنهى مهمته، على خير. يعود الشرطي إلى مكانه. لكن يبقى تصرّفه أشبه بعلامة استفهام معلّقة في الهواء: كيف يرى الشرطي سلطته في الشارع؟ ولماذا يتصرف بعض الشرطة كما كانت الميليشيات تتصرف خلال الحرب الأهلية على الحواجز؟ ميليشيات الحرب الأهلية التي أُدخل عناصرها الأمّيون على الأقل، مدنياً، في المؤسسات الأمنية اللبنانية «لاستيعابهم»، على اعتبار أن تلك المؤسسات العسكرية حاضنة غير طائفية لكل أولاد البلد. فهل نجحت تلك المؤسسات الأمنية في «هضم» الميليشيات، أم العكس صحيح؟ ما يحصل على الطرقات يشير إلى أن تلك المؤسسات تعاني أكثر فأكثر من عسر في الهضم.