سنوات معدودة لا تزال تفصل عصمت القواص عن تقاعده من التعليم الرسمي، إذ ينوي أن يبدأ كتابة تجربة جبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة، التي كان جزءاً منها «خوفاً عليها من التزوير»، كما يقول. هو هاجس يسكن عقل النقابي القديم، إضافة إلى تحضير جيل نقابي جديد
فاتن الحاج
لا يزال عصمت القواص أميناً للطموحات الديموقراطية والتقدمية التي حملها جيل السبعينيات. فالتغيرات السياسية منذ تسعينيات القرن الماضي لم تصب الرجل بأي نكسة من النكسات التي طالت المشروع اليساري الوطني. «تراجع الفكر اليساري الاشتراكي في العالم لن يكون يوماً نهاية تاريخ نضال البشرية من أجل العدالة»، يقول لـ«الأخبار» مراهناً على تجديد الوسائل ومراجعة الأخطاء.
نهاية الستينيات، انخرط القواص في تحركات الطلاب الثانويين لتعديل المناهج، من أجل ألا يبقى التعليم نخبوياً. «شاركنا في أكثر من تظاهرة لإلغاء البكالوريا القسم الأول لاعتقادنا أن القصد من اعتمادها ألا يصل إلى التعليم الثانوي والجامعي إلا النخبة»، يقول.
من الجو اليساري التقدمي في السبعينيات أخذ القواص التأثير الأساسي الذي كوّن شخصيته. فالإجازة في الرياضيات ليست كل ما خرج به ابن صيدا من كلية التربية في الجامعة اللبنانية، فقد خطّ تلاقح الأفكار بين القوى السياسية المختلفة هناك بداية مشواره مع العمل العام. لم يكتف القواص بالعمل الطالبي الذي كان منفتحاً آنذاك على ثورة طلاب «أيار 1968»، بل حوّل اهتمامه إلى العمل التنظيمي في أوساط العمال الزراعيين والفئات الشعبية. في تلك الأثناء، بدأ يقترب مما كان يسمى مجموعة اليسار الجديد قبل أن ينضم إلى منظمة العمل الشيوعي. بعد التخرج من كلية التربية، اختار القواص التدريس في ثانوية بعلبك حيث ساهم في مهمات حزبية في المنطقة، وانتقل بعد ذلك للتعليم في النبطية قبل أن يعود إلى صيدا ليستقر في ثانوياتها. مع أنّه رافق تأسيس رابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي، لكن «العمل النقابي لم يكن يتصدر اهتماماتي، بل كنت منشغلاً في بناء المنظمة والوجود العمالي والشعبي».
يستمتع الرجل بالحديث عن ذكرياته خلال بناء كادر منظمة العمل الشيوعي في قرى الزهراني. يشع وجهه مرحاً وهو يتذكر أنه «في إحدى المرات اضطررت إلى العودة ليلاً من بلدة الزرارية إلى مدينة صيدا... مشياً، لأن أحداً من رفاقي لم ينتظرني معتقداً أنني لا شك غادرت البلدة، فيما كنت لا أزال أعقد الاجتماعات حتى الحادية عشرة والنصف ليلاً».
خلال حرب تشرين 1973، بدأت المنظمة التحضير للعمل المسلح. يروي القواص أنّه شارك في العمل العسكري بشقيه: مقاومة إسرائيل والحرب الأهلية.
يستعيد تلك المرحلة بشغف: «كان العمل علنياً قبل الاجتياح الإسرائيلي في عام 1982، لكن بعد الاجتياح أعدنا بناء وضعيتنا بأسلوب العمل السري وكنت مسؤولاً أساساً عن مدينة صيدا».
واكب القواص توحيد رابطة الثانوي وبقي عضواً فيها حتى اليوم
يتنهد قائلاً: «كانت مرحلة معقدة وبدها نفس طويل، وخصوصاً أنّ المنطق الذي كان سائداً لدى دخول العدو الإسرائيلي: ما حدا بيقدر لإسرائيل». لكن الاستسلام الناتج من تعب اللبنانيين من الاعتداءات الإسرائيلية والحرب الأهلية سرعان ما تبدل مع انطلاقة العمليات العسكرية للمقاومة الوطنية ووقوع قتلى إسرائيليين. في تلك الفترة، كان القواص مطلوباً من إسرائيل والقوات والكتائب على حد سواء، بصفته مسؤولاً عسكرياً في المنظمة. هكذا، قرر البقاء متنكراً بهيئة عامل زراعي في أحد البساتين إلى أن... حصل ما حصل منتصف ليل 26 كانون الأول 1984. يحكي القواص كيف أنه فوجئ ومرافقه بمداهمة بعض عملاء إسرائيل المكان «ونحن نائمون فأخذونا إلى المركز الإسرائيلي في مار الياس ــــ حارة صيدا للتحقيق معنا، وهناك تعرضت للتعذيب لشهر كامل، فكانوا يرمونني تحت المطر إلى أن سبّب لي ذلك آلاماً في العمود الفقري». يتحسس الرجل وهو يتكلم عن ذلك رقبته، التي ما زالت تؤلمه حتى اليوم. ثم يخبر كيف نُقل، بعد ذلك، إلى معتقل أنصار حيث «استقبلنا استقبال الفاتحين». كيف ذلك؟ يروي: «معظم الشباب المعتقلين كانوا طلابي، هكذا حملوني على الأكتاف وجالوا بي في المعسكر».
يبدو القواص فخوراً بفترة الاعتقال: «كنت مسؤول المعسكر الذي يحدد الموقف السياسي». يضحك وهو يقول ذلك مستذكراً كيف كان يلف حجراً بالورقة التي كتب عليها الموقف ليرميها في ملعب معسكرات المعتقل الأخرى، ويضيف: «في المعتقل، توزعنا المسؤوليات، والأهم، مجلة الحائط التي كانت تتضمن رسماً كاريكاتورياً يومياً بريشة فرج الله فوعاني، شهيد في جبهة المقاومة الوطنيّة من الحزب الشيوعي.
كان قد مضى على اعتقال القواص 4 أشهر، حين قررت إسرائيل الانسحاب إلى الشريط الحدودي. بعدها نقل إلى معتقل عتليت في فلسطين المحتلة «حيث بقينا نحو شهر ونصف قبل أن يطلق سراحنا في 25 أيار 1985 مع مجموعة من الأسرى الفلسطينيين، إثر عملية تبادل مع أحمد جبريل، أمين عام الجبهة الشعبية ــــــــ القيادة العامة».
كان متخفياً بهيئة عامل زراعي قبل اعتقاله في عام 1984
وشهد مطلع التسعينيات نقطة تحول في حياة القواص السياسية. فقد اختلف سياسياً وتنظيمياً مع منظمة العمل الشيوعي، فاستقال إثر ذلك ومعظم أعضاء فرع الجنوب من المنظمة. «كان لدينا اعتراض على التحالفات التي نسجها الأمين العام للمنظمة، محسن إبراهيم، مثل تحالفه مع ياسر عرفات، كما انتقدنا انكفاء الرجل عن النشاط الجماهيري والسياسي والتحكم المبالغ فيه بالقرار». بعد تراجع قوى اليسار أمام صعود الحركات الطائفية، سعى القواص مع بعض اليساريين إلى «بناء تيار سياسي غير أيديولوجي» يجمع الوطنيين الديموقراطيين، بغض النظر عن انتماءاتهم الفكرية. كانت هناك محاولات على مستوى لبنان استمرت حتى اغتيال الرئيس رفيق الحريري بعدما انقسم الأعضاء بين 8 و14 آذار. ثم ساهم القواص في تأسيس اللقاء الوطني الديموقراطي في صيدا الذي يترأسه النائب السابق أسامة سعد.
من دوافع اللقاء، بحسب القواص، «أنّ هناك وطنيين ديموقراطيين كثراً ليسوا منتمين إلى أحزاب يؤيدون المقاومة وغير موافقين على البرنامج الاقتصادي والاجتماعي للسلطة وجدوا أنفسهم في هذا اللقاء».
أما في الشق النقابي، فواكب القواص توحيد رابطة أساتذة التعليم الثانوي وبقي عضواً في الهيئة الإدارية منذ عام 1992 إذ استلم الشؤون التربوية لفترة طويلة وبادر إلى طرح المؤتمرات التربوية قبل أن يتولى العلاقات الخارجية إذ ساهم في انضمام الرابطة للمرة الأولى إلى «الدولية للتربية» و«منظمة المعلمين الفرنكوفون».


قصور الزعماء

عصمت القواص أستاذ الرياضيات في ثانوية صيدا الرسمية للبنين هو أيضاً أستاذ متعاقد بالساعة يدرّس طرائق تعليم الرياضيات في كلية التربية ــــ الفرع الأول في الجامعة اللبنانية. لكنّه لم يتفرّغ في الجامعة حتى الآن رغم مرور سنوات عدة على وجوده في الكلية، والسبب أنّه يرفض أن يعرّج على قصور الزعماء!