هناك في مخيّم برج البراجنة، يتحايل الشبان على الحائط الكبير الذي يسيّج منازلهم وزواريبهم الشائكة. يرسمون عليه شعاراتهم نهاراً، ويصنعون الموسيقى القادرة على اختراقه ليلاً. يبحثون دائماً عن أشكال جديدة، تحدث ثقوباً في الجدار
برج البراجنة ــ أحمد محسن
الليل طويل في المخيّم، والقمر لا يصل إلى الأزقة. ثمة حائط كبير محيط بالمكان. تقول اللافتة من جهة طريق المطار القديم، إنه الأوتوستراد الجديد الذي يصل سالكه إلى منطقة الحازمية. السيارات تعبر مسرعة من فوقه، وتبدو بيوت المخيّم لركاب تلك السيارات أشبه بقرية النمل: صغيرة ومعتمة بشدة. أضواء السيارات الحمراء، الجديدة منها خصوصاً، تفقأ عين المدينة. يلتقطها أهل المخيّم بسهولة، فلا كهرباء هناك ولا قمر. وهناك أيضاً، ذاك الشيء المرتفع الذي تتسابق عليه السيارات، ويمنع وصول جميع أشكال الحياة إلى المخيّم. الشيء الذي يمكن أن يُطلق عليه لقب «جدار».
لا ينقصه شيء ليكون كذلك. طوله يفي بالغرض. كافٍ تماماً لحجب الشمس عن المباني القصيرة، وارتفاعه أعلى بنسبة ملحوظة عن الأوتوسترادات القريبة. عرضه ممتاز أيضاً، والمسافة الفاصلة بين المفترق المؤدي إلى داخل المخيّم، وبقية الأوتوستراد، أقل من متر واحد تقريباً. يمكن أن تسع سيارة واحدة بشق النفس في ذلك المفترق، ويمكن لأرتال من الدبابات المرور دفعة واحدة إلى الحازمية. ثمة التباس في ضخامة حجم مساحة العبور إذاً. على أية حال، ورغم قيام الجسر ــــ الجدار بواجباته الأساسية، أي تسهيل حركة السير، إلا أن شباباً في المخيّم لا «يبلعون» منظره. يعتقدون أن بناءه على هذا الشكل مقصود تماماً. يرون فيه «آبارتهايد» حقيقياً: فصلاً عنصرياً متعمداً.
الأمر غير معلن. في المبدأ، الجسر هو جسر وحسب. الشباب هناك، كما أكد أكثر من واحد منهم، يتعاملون مع الموضوع كأنه كذبة، والجميع يصدقها طوعاً، تجنباً لإثارة المزيد من المشكلات. الشباب في المخيمّات لا تنقصهم اتهامات عبثية جديدة. ولكن بعضهم يصر على أن تلك الكمية الكبيرة من الباطون «جدار فاصل أقرب من أن تكون مجرد جسر». وأخيراً، بدأ الشعور الجماعي الفلسطيني، والشبابي تحديداً، بالخروج عن صمته في أكثر من مناسبة. الرسوم تنطق في صمت الجدران: «لا للجدار العازل». هكذا رسم «الجزار» على الحائط. سجّل موقفاً واضحاً من الوضع الديموغرافي.
الجزار هو موسيقي فلسطيني شاب. يغني قضيته على وقع الراب مع زملاء أربعة. يعترف بأن المقصود بالرفض، هو الجدار الإسرائيلي، من دون أن ينفي أن «الجدار اللبناني» مجحفٌ أيضاً (يضيف الجدار المصري متهكماً). الشعور بالعزل موجود، لكن «المقاومة» ممكنة. الرسوم باقية في مكانها تعبر بسلام إلى من شاء. يقابلك شعارٌ آخر: «لا للتوطين». وللأهداف عينها، حطت أصابع الشباب الفلسطينيين ذات مرة على حائط في منطقة نهر الموت. أعجب المارة بالرسوم، وعلى ذمة الراسم، لم تهمهم القضية كثيراً. لكن الجزار لا ييأس. يريد أن يقول شيئاً. لا يريد أن يكون مشهوراً. يهمه أن يُشهر الألم الفلسطيني في وجوه من هم خارج المخيّم. أن يقفز الصوت فوق الجدار.
الأفكار مشتركة في الرسم، هو يطبّق فقط. رفاقه في الفرقة الموسيقية، «كتيبة رقم 5»، وزعوا الأدوار في ما بينهم، إلا أنهم يتشاركون القضية ذاتها: تصوير الوجع الفلسطيني اليومي. فإلى «الغرافيتي»، يتسلّح الشباب الفلسطينيون بالموسيقى أيضاً. ركزوا هذه المرة في إصدارهم الجديد على مسألة الجدار. أعطوه حيزاً مهماً، وله مساحة في أغنيات «شاهد عيان»، و«عبد الجبار»، و«الجزار»، و«أسلوب»، و«مولوتوف». في مقطوعتهم الخاصة فيه، أخبار عن نزيف الشتات. صرخة قوية من منزل رطب في برج البراجنة، إلى مدينة رام الله البعيدة، ويد طفل تحول الباطون المسلّح إلى أنقاض.
يطلق الشباب الفلسطينيون على عملهم اسم «الطريق المرسوم». بجدار أو بلا جدار، العودة واحدة برأيهم. وللمناسبة، شباب مخيّم برج البراجنة، ليسوا وحدهم في هذا «الصراع» مع الجدران. فالكتيبة رقم 5، قامت بحفلات عدة في مخيمات البداوي وعين الحلوة. في الأول، الجيش يحاصر الجميع. يدقق من أجل الأمن، «لكن اللاجئ الفتي، يجد صعوبةً في تقبل ذلك». وفي عين الحلوة، القصة ظاهرة ولا تحتاج إلى شرح. يلخصها شاب فلسطيني باختصار. برأيه كل العوائق متوافرة: أحراج موز كثيفة، ثم حائط كالسور العظيم، تتربع عليها نقاط المراقبة، وحواجز أمنية دائمة. مخيّم عين الحلوة هو الآخر، كلم مربع واحد يسكنه آلاف. مكان معزول عن الكوكب، لولا رحمة السماء.


الرعب الذي ينمو

كنا في الصغر نخشى الوقوف إلى جانب الحائط. كان عقاباً مدرسياً معتمداً. أن تدير ظهرك للزملاء الصغار، وترفع يديك عالياً أحياناً. حتى الوقوف والتحديق إلى وجوههم كان محرجاً. الجدار موت حاسم. مسافة مقتولة بين الإنسان وأيّ شيء. وكنا في صفنا نخشى التحديق إلى وجوه بعضنا بعضاً. فعل الوقوف بحد ذاته كان عقاباً. عندما كبرت، صرت أشاهد هذا الرعب في التلفاز. الجدار ينمو خلف الحدود، والآن، بالفولاذ، يحوّل غزة إلى رئة يعزّزها السواد. في حالة غزة، يصبح خوف الصغار من الجدران مفهوماً.
عندما نكتب عن غزة، نكتب عن مدينة لا نعرفها. علينا أن نعترف بذلك. ليست بيروت التي تمر في خصل شعرنا، ويدغدغ اسمها أطراف أصابعنا إذا كتبنا. غزة موغلة في البُعد. نكتب ما تريدنا أن نكتبه، لا ما نريده نحن. الشواطئ فيها غريبة، والموج هناك إنذار دائم: ستجوعون أيها الأبناء. الأنفاق لن تتناسل إلى الأبد، سيقطعون أرحامها بالحديد الصلب. والعمال في باطن الأرض، سيكفّون عن اختراع الطفولة، في قيلولة الغداء. ستصبح السماء أقرب تدريجياً إلى عيون البشر، وقد تطبق على رؤوس الناس يوماً، من شدة الفزع.
الفولاذ قاس وحقود. يرفض الرسم على أجزائه. يرفض الحراك. وحتى اختياره ليكون مادة للإبادة ليس عبثياً أبداً. الجدار الحديدي نهاية عهد سابق لا عودة له. وأيها الأبناء، والمؤمنون، الجدار حلال. قتلكم حلال. خنقكم بشراهة حلال. ثمة رجلٌ أصلع وسمين، في التلفاز، أكد أن الضحك على مأساتكم حلال أيضاً. أنتم مقبلون على «أويشفتز» وعلى موت آخر، وهذه هي أحوال القاهرة اليوم. نوم عميق، وانتهاء عهد سابق لا عودة له. فبعد الفولاذ الأخير، ينطلق عهد جديد: سينام أطفال غزة جوعى، وربما يأكلون وسائدهم.