ّغزة ــ حنان عرفاتفي فيلمه الشهير «الحدود»، وقف الممثل دريد لحام حائراً بين «غربستان» و«شرقستان». لم يستطع المرور لفقدانه جواز السفر. أهالي غزة يحملون جوازات سفر، لكنهم عالقون بين الحدود. فبعض الدول العربية لا تعترف بهذا الجواز «اللقيط» لأنه ثمرة اتفاقات أوسلو، وأخرى تعامل صاحبه كمشبوه أو كحامل مرض معدٍ.
السفر من غزة المحاصرة مهمة مستحيلة. يجب أن تكون غزاوياًً مجنّساً، أو مريضاً توشك على الموت، أو صاحب قدرة على التنسيق بالمال أو بالعلاقة مع ذوي النفوذ، كي تمر من معبر رفح الحدودي، منفذ الغزاويين الوحيد على العالم الخارجي. وحتى إن كنت محظوظاً وينطبق عليك أحد هذه الشروط، فلن يكون بمقدورك السفر وقتما تشاء، إذ عليك انتظار بضعة أيام تتكرّم فيها السلطات المصرية بفتح المعبر «المغلق» كل شهر أو شهرين. ليس مسموحاً للغزاويين بأن يبحثوا عن ثغرة في جدار الحصار يتنفّسون منها. البحر في غزة ليس نعمة فقد تكفّل بحصارها غرباً، وسياج حدودي صنيعة الاحتلال يحيطها من الشرق والشمال، ومنطقة عازلة بعمق 300 متر دمرت سلتها الغذائية وحرمتها منابع المياه، فكان لا بد من إحكام الحصار جنوباً، والقضاء على أنفاقها التي يدفع أهاليها حياتهم فيها ثمناً لجلب ما يساعدهم على الحياة، فكان الجدار الفولاذي الذي يحول بين الغزاويين وبقايا حياة يبحثون عنها في أعماق الأرض، بعدما سدت في وجوههم المعابر والحدود.
بالصدفة، شاهدت لعشر دقائق أو أقل جزءاً من برنامج حواري على إحدى الشاشات، كان المذيع المغمور الذي غزا الشيب رأسه يحاور خبيراً استراتيجياً يحتاج إلى طبيب نفسي، يبرران معاً بناء نظامهما لجدار فولاذي على الحدود مع غزة. يقول المذيع إن قوافل المتضامنين الدوليين توهم العالم بأن الناس في غزة يموتون جوعاً وعطشاً. يذكر فتوى لشيخ الأزهر يشرّع فيها بناء الجدار، فيما يتهكّم على فتوى سبقتها لرئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يحرّم فيها خنق غزة بالجدار. الخبير ردّ بأنه ليس رجل دين، ولكن لمصر الحق في فرض سيادتها على أرضها ببناء الجدار لمنع تهريب السلاح من غزة إلى الأراضي المصرية! المحاور وخبيره مثّلا الدور المرسوم لهما، وخلطا قضية إنسانية بفتاوى شرعية وخلافات سياسية فلسطينية داخلية. وخرج الاحتلال بريئاً، فهو لم يحاصر غزة إلا بعد سيطرة حركة «حماس» على القطاع الساحلي الصغير قبل ثلاثة أعوام. لكن غزة أدرى من الخبير بشعابها، فالحصار مضروب عليها دون إعلان رسمي منذ اندلاع انتفاضة الأقصى في أيلول 2000، وقد فرضه الاحتلال رسمياً بدعم دولي وتواطؤ أنظمة عربية بعد فوز الحركة الإسلامية في انتخابات كانون الثاني 2006.
الجدار الفولاذي أميركي الصنع، والتمويل لن يضيف إلى «الشقيق الأكبر» شيئاً، فغزة أصغر بكثير من تهديد أمن مصر، لكنه يهدد حياة «الغلابا» في غزة، أكثر من تهديده لحركة لها طرقها الخاصة في الحفاظ على حكمها المتفرد لقطاع يبدو على الخريطة كـ«رأس دبّوس».