ينزعج أهل الاستيقاظ المتأخر من صوت زموره الذي يدوي ابتداءً من السابعة صباحاً، أما من يستيقظون قبل هذا الوقت، فينظرون بعين الرضى إلى استمرار مرور «أبو علي ميني» بائع الكاز، محيياً كل صباح مهنة على طريق الانقراض، ويرفض التخلي عنها مثلما يرفض توريثها إلى أولاده
منهال الأمين
إذا كان وقع حوافر حصانه يجهد في اختراق هدير السيارات، فإن زموره المميز يعلو بيسر فوق أصوات أبواقها. لكن مزيج أصداء الحوافر والزمور يكفي لإعلام سكّان الأحياء بتوقيت مروره يومياً. إنه أبو علي مَيْني، بائع الكاز. على الرغم من انقضاء زمن الفوانيس إلا أنه لا يزال لهذه المادة النفطية زبائنها التي عاد البعض لاستعمالها مع ارتفاع مستوى التقنين في بلاد «اللّهاث وراء الكهرباء»، ما يجعل للرجل رزقاً يلتقطه بممارسة هذه المهنة التي ورثها عن أبيه.
وإذا كان زبائن الكاز يستعملونه للإضاءة في حالات الطوارئ، فإن له استعمالاً آخر لا يقل أهمية، وهو التنظيف، إذ ينظر البعض إليه باعتباره «معقّماً طبيعياً» برغم رائحته النفاذة.
يُستعمل الكاز للتنظيف عادة ولإضاءة الفوانيس في ظل أزمة الكهرباء
أبو علي فارسٌ، لا يمتطي حصانه فحسب، بل يسوسه على دروب الإسفلت بدل المروج الخضراء، التي خلّفها وراءه مرغماً في قريته البقاعية، النبي عثمان منذ سنوات خلت، حين طُلب منه الحضور على عجل إلى العاصمة بيروت لأن شقيقه «أبو سعيد» توفي، وترك له «طنبراً» وخزاناً من الحديد، ومعهما جواد. وترك له زبائن في الأزقة والزواريب حفظها عن ظهر قلب. وعلى خطاه سار أبو علي الذي لم يكن يألف هذه الطرق المزدحمة بالسيارات والتلوث. كان عليه أن يكمل مشوار شقيقه في المدينة، التي لم يكن يطيق النزول إليها، ولا يقصدها إلا نادراً وفي الملمّات حصراً، وهو وإن صار مع الوقت أحد معالمها ومن وجوهها «البارزة»، إلا أنه لا يزال فيها مثل العصفور الذي أدخل القفص عنوة، سيظل ينشد يوم الحرية «أو بيموت قهر»، يقول. لا يعبّر شكل «أبو علي مَيْني» وهيكله عن عمره، ابن الخمسين توحي ملامحه بأنه تجاوز السبعين بسنوات: «الشمس بتكبّر وبتغيّر»، يقول ويعقّب: «أكل الدهر وشرب علينا». بانت صروف الدهر جلية على بشرته. قامته قصيرة، ولكن قوة أعصاب يديه وهمته العالية تعوّض المظهر بقوة كامنة، «يوضع سرّو بأضعف خلقو، ما تغرّك المظاهر». تحدّثه فيرد دائماً بالإيجاب: «لأن من رضي عاش ومن خاف سلم»، فتحتاط معه، وتحاول وضع إصبعك على جرح ما، ولكن عبثاً تفعل «خلّيها جوّا تجرح ولا تطلع لبرّا وتفضح».
لأبي علي ميني مشوار يومي يبدأ مع ساعات الفجر الأولى، ومن ثم يجر حصانه وينطلق عند السابعة صباحاً. وهو دقيق في جولته لدرجة أن البعض يعتمده كمنبه للاستيقاظ من النوم، كما يخبره كثيرون. أما في شهر رمضان فهو يعدّل قليلاً في مواعيده مراعاة لمن يسهرون للسحور، فيؤخر مروره ساعة واحدة إلى الثامنة صباحاً ويستمر في جولته حتى الواحدة ظهراً حداً أقصى، وخصوصاً في «رمضان اللي بيجي بالصيف، ما بقدر أوقف على رجلي بعد الساعة واحدة». أما دوامه في سائر أيام السنة فيمتد حتى الرابعة أو الخامسة «بحسب الرزقة»، ولكنه اعتاد أن تكون الساعة الثالثة من بعد ظهر كل يوم موعداً للعودة إلى المنزل طمعاً في رؤية أولاده. وهكذا يكون قد أنهى جولته، و«نفّق» بضاعته من الكاز «الأصلي»، مستجيراً بالله من البضاعة المغشوشة عند بعض التجار «القليلي الضمير، وما أكثرهم». لا يأمن أبو علي التبضع إلا من مكان موصوف في منطقة الدورة، فيقصده على نحو شبه يومي لتأمين حاجة السوق من البضاعة «الرخيْصة والكويْسة». فقد سبق أن تموّن بضاعة «مضروبة» من أحد «الأوادم»، أي مخلوطة بالبنزين «وطلعت بلحيتي». وهو حريص جداً على سمعته، وخصوصاً مع منافسة الباعة الآخرين، وإن كانوا معدودين على أصابع اليد الواحدة. ولكن ماذا عن ارتفاع سعر النفط والمحروقات؟ لا يبدو «أبو علي» معنيًّا كثيراً بارتفاع أسعار الكاز، لذا فهو لا يترقّب الموعد المشؤوم يوم الأربعاء من كل أسبوع، ولكنه يحفظ أن سعر تنكة الكاز يتأرجح بين 30 و40 ألف ليرة، ويبيعها هو بالزايد ثلاثة آلاف ليرة في حدها الأقصى. «وكيف بتوفّي معك يا بو علي؟». خمسة عشر إلى عشرين ألف ليرة يومياً، يجد فيها «نعمة كريم».
يتكل البعض على زمور أبي علي للاستيقاظ عند السابعة من صباح كل يوم
ولكن لهذه المهنة أسراراً يتّكل عليها أبو علي: «بيوفّي معنا البيع بالقنينة، وأغلب الناس هيك بتشتري، وبالنادر جداً أن يشتري أحد تنكة كاملة». يستفيض في شرح هموم المهنة وتفاصيلها، من التعب والركض وراء اللقمة والاضطرار إلى التزام المنزل في الأيام الماطرة، وهو ما يرتّب عليه أعباءً إضافية. يتوقف عن الكلام لينهر حصانه الكثير الجموح، الذي يحلو له الشغب، حين يتوقف أبو علي لبيع أحد الزبائن. وطعام الحصان وحده يكلّف أبا علي من خمسة إلى ستة آلاف ليرة يومياً علفاً، إضافة إلى أنه يتطلّب عناية خاصة بحوافره ونظافته، هذا إذا لم يتعرض لنكسات صحية «تكلّف هاك الحسبة عند الطبيب البيطري الذي لا يرحم».
كانت النبي عثمان وجوارها: اللبوة والعين وقرى أخرى، ميدان أبي علي الأول، يصول ويجول موزّعاً الكاز طيلة أكثر من ثلاثين عاماً. يتحسّر مَيْني على أيام الضيعة: «على الأقل، بتشم هوا نظيف. كنت قاعد ببلاش مش متل هون بدفع اجار نص بيت 250 ألف، بزواريب صبرا، غير الكهربا والمي ويا ريتهم بيجو، رزق الله عن جد عالضيعة». لا يحدد أبو علي موعداً لتقاعده. يبدأ مشواره يومياً من محطة الرحاب نزلة السفارة الكويتية، باتجاه محلة الغبيري، ثم إلى حارة حريك وبئر العبد، باتجاه الكفاءات وصولاً إلى حي السلم محطته الأخيرة، حيث يأمل دائماً إفراغ ما بقي من الحمولة، كي لا يعود إلى البيت ومعه ولو «غَرفة» واحدة، ليعاود الكرة في اليوم التالي بالموعد والخط والإيقاع نفسه. وهو يرى في مشواره اليومي «شمة هوا وتسلاية، لولا هالشوبات القاسيين بالصيف والهوايات الصقعين بالشتا». ولكنْ هل لهذه المادة زبائن دائمون أم أن هناك فترات متقطعة يشهد فيها السوق هبوطاً وصعوداً؟ يؤكد أبو علي أن الوتيرة دائماً جيدة ومرضية بالنسبة له، مردداً وهو يبتعد، لأن الحصان لم يعد يحتمل الوقوف «المهم الصحة وكل شي بهون». يقولها ثم يطلق العنان لزموره، وهو بالمناسبة ليس مجرد زمور عادي، بل يؤتى به خصيصاً من سوريا، «وأسعاره تبدأ من 100 دولار وطلوع». كذلك الحصان ثمنه لا يقل عن ألفي دولار، إضافة إلى الخزان والسكة. إذاً، عدة الشغل لهذه المصلحة ليست بهذه البساطة، ولهذه المهنة أسرار خبّرنا منها أبو علي جزءاً يسيراً وغابت عنا أمور أكثر، جعلتها تصمد حتى الساعة، وجعلت أبا علي يصبر عليها، ويغادر البقاع إلى بيروت لئلا تضيع.