بين الحمار و«المجنون» والبردعة


ضحى شمس
كنت نويت ألا أكتب عن الموضوع. فلسنا بحاجة إلى قصة إضافية مفادها أن عنف الشارع اللبناني يزداد سوءاً، وأن التعصب، الذي لا يوصف بالعمى من فراغ، لم يعد يُخجل المصابين به. فالمرء، بدون أن ينتبه أحياناً، يخضع، تعباً ربما، لابتزاز ليحظى ببعض سلام في أيامه الغارقة مثلنا بالعنف اليومي. لكن الصمت لا يؤدي إلا لمفاقمة الوضع. هكذا، يصبح «عادياً» أن يتعدى عليك زملاؤك المواطنون، شفهياً غالباً... حتى الآن: في الشارع، في المكتب، على موقع الجريدة، حتى وأنت تبحث عن بعض الترفيه، في عتمة صالة سينما، كما حصل معي الأسبوع الماضي.
فقد قصدت وصديقاً لي مغرماً بكل ما هو فلسفة يونانية، سينما في منطقة فرن الشباك، لمشاهدة فيلم «أغورا»، للإسباني أليخاندرو أمينابار، الذي يروي كيف أن حضارة مستقرة مترفة يدمرها التعصب الديني. يختصر الفيلم حقبة تاريخية نهاية القرن الثالث للميلاد في الإسكندرية. و«أغورا» هي لفظة يونانية تفيد مكان التجمع للتداول بالأفكار، ويحكي قصة فيلسوفة وفلكية شابة، هي «هيبيشيا»، تبحث في كروية الأرض، وكانت تدرّس لطلابها في مكتبة الإسكندرية الشهيرة، لكن ميليشيا من متعصبي المسيحيين الأوائل، تحرقها، ليحرقوا في نهاية الفيلم الفيلسوفة لرفضها اعتناق الديانة.
الفيلم مبني على حقائق وثائقية غيبتها كليشيهات التاريخ. وجزء من روعته كان استخدامه مفردات الأفلام الهوليوودية الضخمة في خدمة رواية مخالفة للروايات الرسمية المنتصرة.
هكذا، وفي اللحظة التي كان فيها «الملتحون» المتعصبون لدينهم الجديد، يقتحمون مكتبة الإسكندرية المترعة بلفائف ومخطوطات العلم والفلسفة، ليحرقوها، وفيما كانت الفيلسوفة الشابة، تركض في أنحاء المكتبة محاولة إنقاذ بعض المخطوطات، كان الصديق، وهو بالمناسبة رجل قانون، يهز برأسه متأثراً هامساً: «له له له...»!
وإذ يدوّي صوت قريب في العتمة: «خلص يا كلب! أنقبر فلّ من هون... قوم من حدنا... قوم انقبر عم قلك!». التفتنا إلى مصدر الصوت فلم نر شيئاً في عتمة القاعة، لكننا لم نفهم لمن كان الشاب الغاضب يوجه كلامه! نظرنا حولنا، فلم نجد إلا نحن، الجالسين على مسافة عشرة مقاعد على الأقل عن الشاب الغاضب! يسأل الصديق المذهول: «عفواً مع مين عم تحكي؟ معي؟»، يجيب الرجل بالصراخ «انت يا خ... ايه انت، قوم من هون عم قلك انت واللي معك وله».
«معنا عم يحكي هيدا»، لم يكف الصديق عن التساؤل. فكل ما صدر عنه هو تلك الهمهمة الآسفة، التي بالكاد، أنا الجالسة بقربه، سمعتها! يهمس الصديق: «هيئتو مجنون هيدا، قومي نبعّد عنو». ولأنه رجل، وفي لبنان، أي إنه هو المطالب بردة الفعل، لم أعارض رغبته. فلست من النساء اللواتي يرتحن لمشهد رجال يتضاربون، ولم يكن الصديق الدمث، رجل القانون، من هذا النوع. ولم يكن مفهوماً ما هي مشكلة الرجل أصلاً، وحتى تعبير وجهه لم نره في العتمة، كل ما سمعناه هو صوته الغاضب وعباراته الشوارعية التي لم تستدع في ذاكرتي كابنة حرب أهلية، إلا مآثر مسلحي الميليشيات.
وسط هذه الفوضى، ولأن الفيلم كان مستمراً، استجبت لرغبة الصديق، وغيّرنا مكاننا. لكني لم أكن مرتاحة. وبدلاً من أن أتابع الفيلم، بقيت أفكر في «المجنون»، كما وصفناه. كان في داخلي صراع. أحسست أن أحداً تعدى عليّ ولم أدافع عن نفسي. لا بل إن «المجنون» ربّى فينا الصالة بكاملها. كان عليّ أن أدافع عن نفسي، فانتظرت حتى نهاية الفيلم. وما إن أضيئت الصالة، حتى خرج «المجنون» أمامنا، وحرص على النظر إلينا شذراً، قبل أن يخرج وأصحابه كديك منفوش الريش.
«أين المدير» سألت الموظف. فيما كان الصديق ما زال يجادلني أن «فيوزات الرجل طاقّة»، لكن كان من الواضح أن مشكلة الشاب أننا شهدنا على صورة لا يرضاها لنفسه وما يعتبره «قومه». لم يكن يهمه أن الحدث تاريخي وموثق، كان كل همه ألا يشمت به «الآخرون». وبما أننا في لبنان، فلا شك بأننا «الآخرون». بالطبع هو لا يعرف أن هذا الصديق مسيحي، لكن الصورة التي جاءت من «غربي» (مرجع الحضارة) وتطابقها مع صورة المتعصبين المسلمين في عصرنا، وبوجود «أغراب»، أي نحن، كان أكثر مما يقدر على تحمله. لكنه لم يقدر على «الحمار» أي المخرج الإسباني غير الموجود بيننا، فما كان منه إلا أن جرب مع «البردعة»، أي المشاهدين المعجبين بالفيلم. لكن، كيف يعتدي شخص في مكان عام وبتلك الطريقة الصاخبة على الناس، بدون أن يعترضه معترض من موظفي القاعة؟ لو حصل ما حصل في سينما فرنسية مثلاً لكان شبان الصالة سحبوه من رقبته إلى الخارج واستدعوا الشرطة.
يسألنا مدير الصالة: أي فيلم هذا؟ تجيبه الموظفة: «فيلم حساس شويه، بين إسلام ومسيحية»! يهتف الصديق وهو يضحك: «عفواً بس ما كان في إسلام وقتها مدام». يجيبنا المدير أنهم كانوا ليتدخلوا لو خرجنا واشتكيناه، في تلك اللحظة يمر بجانبنا شاب، ويقول لنا: «يا ريتك ضربتو، كنا ناوين لو معك، بس انت صاحب الحق وما تحركت!».