الأستاذ سيّد صفه». لا يبدو أنّ المقولة تنطبق على أساتذة بعض الجامعات الخاصة المستجدة الذين لا يمونون حتى على وضع علامات لتلامذتهم ترضي قناعاتهم. فهؤلاء في الغالب متعاقدون يلهثون وراء ساعات من هنا وهناك. بقاؤهم في عملهم مرهون بمتانة علاقاتهم الشخصية بطلابهم من جهة وإداراتهم من جهة، التي اعتادت الاستغناء عنهم بلمح البصر لمجرد شكوى من الطلاب، ممولي القطاع الخاص في النهاية
فاتن الحاج
تخرج منى (اسم مستعار) غاضبة، من صفها في إحدى الجامعات الخاصة. «أكيد مش معقول تكون هيدي جامعة!»، تقول لنفسها. لا تصدق معلمة اللغة الإنكليزية ما عرضه عليها أحد طلابها للتو: «مبلغاً من المال مقابل نجاحه في المقرر!». تختنق حين تتذكر كيف سمح الطالب لنفسه أن يهينها بتلك الطريقة.
للوهلة الأولى، تتحمس منى لإبلاغ إدارة الجامعة بما فعله الطالب الفاسد وبصدمتها من تصرفه «فهي الجهة الوحيدة التي يمكن أن تحميني وتعيد لي كرامتي». أو هذا ما كانت تفترضه الدكتورة العائدة من الولايات المتحدة الأميركية حيث درست وتختبر التعليم الجامعي للمرة الأولى في لبنان. لكن حماسة الأستاذة المتعاقدة خفّت حين علمت بما جرى مع زميلتها د. ليلى (اسم مستعار) المتعاقدة أيضاً مع جامعة خاصة أخرى. وضعت ليلى علاماتها «المنطقية»، كما تقول، على إحدى المسابقات ورفعتها إلى عميد الكلية التي تدرّس فيها للتصديق عليها. فكانت مفاجأتها كبيرة حين فرض عليها المسؤول إضافة علامات لكل الراسبين «لإنو ما بدنا حدا يكون ساقط بالصف». لكن ما كانت الحجة التي قدمها العميد آنذاك؟ تجيب: «ما شي قال ما بدن يخسروا تلاميذ». وأكثر من ذلك، هدّد العميد ليلى «بتشليحها» ساعات التعاقد إذا لم توافق على طلبه الغريب العجيب.
لكن د. ليلى فضلت خسارة ساعاتها في الجامعة على قبول مثل هذه الإهانة، وما جعلها تأخذ القرار وتمشي أنّها كانت في صدد التعاقد في الوقت نفسه مع جامعة أخرى «ومش كل العمداء متل بعضهم، في ناس كفوئين وعندهم ضمير».
هذا لم يكن حال منى، فهي بداية لم تحاول أن تخبر الإدارة خوفاً من فقدان عملها، مصدر دخلها الوحيد. وحتى اليوم يؤلمها أن «تنام» على القصة «صحيح أنني لم أقبل الرشوة لكنني أيضاً لم أسترجع كرامتي». لكن كيف ستقاوم إن لم تشتكِ؟ تعترف الأستاذة آسفة بأن هاجسها في وضع العلامة أصبح اليوم الحفاظ على عدد معين من التلامذة كشرط أساسي لعدم إقفال الصف وطردها.
ليس أصعب على الأستاذ، الذي يظن أنّه متى دخل الصف أصبح سيده، من الشعور بأنّه «لزوم ما لا يلزم ويسهل الاستغناء عنه». هذا هو بالضبط حال المتعاقدين في الجامعات وإن تفاوتت أشكال المضايقات والابتزاز المهني التي يتعرض لها هؤلاء بين جامعة وأخرى.
تتنوع العوامل التي تتحكم بعمل الأساتذة، لا سيما المتعاقدين منهم. يستفز د. كايتي ساروفيم، أستاذة مشاركة في قسمي علم النفس والتربية في الجامعة اللبنانية الأميركية، الضغط المادي والمعنوي الذي تمارسه إدارات بعض الجامعات على الأستاذ، فيما «فكرة الجامعة مبنية على حرية التفكير والبحث والخلق». هنا تسأل: «كيف يمكن أن يحصل ذلك في وقت يعيش فيه الأستاذ المتعاقد قلقاً من رفض الإدارات تجديد العقد معه وإيحائها له بأنّها تستطيع التخلي عنه في أي لحظة؟». لكن ما هي قدرة الأستاذ على الإنتاج في ظل الضغط؟ تقول: «كلنا يعرف أنّ المستوى التعليمي للطلاب في الصفوف التي يدرّسها هؤلاء الأساتذة منخفض. فالمتعاقدون يعانون في كل الجامعات وإن بنسب متفاوتة. فهم محرومون من الضمانات الاجتماعية والصحية، علماً بأنّ هؤلاء يمثّلون عصب بعض الكليات مثل إدارة الأعمال والهندسة والطب».
هذه الحالة من اللااستقرار الوظيفي تفتح حتماً شهية الإدارات والطلاب معاً على استغلال المتعاقدين، بحسب ساروفيم، وإلا ما الذي يفسّر «تصرفنا كأساتذة مثبتين على خلفية يا جبل ما يهزك ريح، فنضع علاماتنا بثقة ونعطي الطالب ما يستحقه غير آبهين بالشكاوى من أية جهة أتت».
تستدرك: «على كل حال الفرق بيعملوا الأستاذ نفسه، هناك أساتذة يرضخون للضغط وآخرون يقاومون». لكن هل من خيار للأساتذة اللاهثين وراء لقمة العيش والخائفين على مصيرهم؟ تتفهم ساروفيم لجوء المتعاقدين إلى حماية أنفسهم في نظام لا يؤمّن لهم أدنى مقومات العيش الكريم، لكن ذلك لا يلغي، برأيها، دور النظام الإداري في الجامعة في حمايتهم.

لا يمانع بعض الأساتذة وضع علامات مرتفعة ليكونوا محبوبين

لا تخفي ساروفيم أنّ بعض الأساتذة يستبقون شكاوى طلابهم للإدارات بوضع علامات جيدة لهم، حتى وإن كانوا لا يستحقونها. لكن العلامات لا تكون مضمون الشكوى، كما تقول، فغالباً ما يخترع الطالب ألف سبب وسبب للاعتراض على طريقة شرح الأستاذ وأدائه داخل الصف. وهذا متاح له ليس فقط عبر الشكوى بل أيضاً من خلال بعض الأنظمة التي تسمح بتقويم الطالب للأستاذ. هنا تتدخل الإدارة لمصلحة الأستاذ إذا كانت راضية عنه لكنها في أغلب الحالات تقف إلى جانب «الطالب الزبون» فتفضل صرف الأستاذ على «وجع الراس»، اللهم إلا في الحالات التي لا يجبرها أحد على الاحتفاظ به، ولكونها تستطيع استبداله متى شاءت، لا سيما في الجامعات التي لا تعتمد كفاءة المدرّس معياراً في الاختيار.
ومع أنّ النظام الأميركي الذي يسمح للطالب باختيار أستاذ فعّال أحياناً كثيرة لتواصل أفضل بينهما، إلا أنّ الطرفين يستغلانه، كما تقول ساروفيم، عبر ما أصبح يعرف في الجامعات «إيزي آي» (Easy A (أي إنّ الطلاب يبحثون عن الأستاذ الذي يضع العلامات الأعلى من دون عناء)، فيما لا يمانع بعض الأساتذة وضع علامات مرتفعة إذا كان الثمن أن يكونوا «محبوبين»! شرطهم الوحيد «ما بدّي طلّع عليّ صيت إني قاسي». يعتقد هؤلاء أنّ «هذه الخطوة» لن تكلفهم شيئاً!! بينما يعتبر أساتذة آخرون أنفسهم مؤتمنين على الطلاب ومستقبلهم.
من يراقب جودة التعليم؟ من يراقب أداء الأستاذ المهني؟ من يراقب ما تخرجه «دكاكين» نجاح المئة بالمئة؟ وما هي نوعية الوافدين الجدد إلى سوق العمل. ربما ليس السؤال الأسهل الذي على وزارة التربية الوطنية أن تطرحه على نفسها.