يعيش في لبنان بضعة آلاف من المواطنين من أصل تركي، يتمركزون أساساً في عكار بين بلدات الكواشرة وعيدمون وحلبا. انقطعت صلة هؤلاء المواطنين بتركيا بعد خروج الجيش العثماني من لبنان، حتى إن اللغة التركية التي يتحدث بها قسم كبير منهم بدأت تتلاشى نهاية القرن الماضي. لكن السنوات العشر الأخيرة شهدت استحضاراً لافتاً لخصوصية الأصل التركي عند هؤلاء اللبنانيين
عكار ــ روبير عبد لله
لم تنتظر تركيا زيارة سعد الحريري إليها لتلتفت إلى تركمانها عندنا. فعندما زارنا وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو نهاية تموز الماضي، كان لعكار حيّز خاص في زيارته. وقد جرى له استقبال مهيب في بلدة البيرة التي تتوسط بلدتي الكواشرة وعيدمون. سكان الكواشرة البالغ عددهم قرابة الأربعة آلاف نسمة جميعهم من أصول تركية. أما بلدة عيدمون فتجمع بين سكانها المسيحيين والمسلمين السنّة المتعارف على وصفهم بالتركمان.
لم يكن اختيار بلدة البيرة عشوائياً، فالبلدة لا تزال تحوي مبنى أثرياً ضخماً، كان مقراً سياسياً وقيادياً وعسكرياً مهماً أيام الحكم العثماني، ولا يزال المبنى بحالة جيدة، وقد صنف أثرياً باسم «سرايا آل مرعب» ويسكن فيه حسّان الياسين المرعبي من بلدة البيرة.
«مثلما لفرنسا رعايا في لبنان، ولأميركا رعايا وللسعودية رعايا... لنا دولة ترعانا»، هكذا يفهم علي عيتاوي، من بلدة الكواشرة، معنى التركمان في لبنان، باعتبارهم من أصول تركية من منطقة ديار بكر، كان لهم مكانتهم وموقعهم عندما كان لبنان جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، ومن ثم افتقدوا تلك المكانة عندما «مات الإسلام بسبب انكسار تركيا أمام الحلفاء». يقول عيتاوي الرجل الثمانيني، نقلاً عن والده الذي عاصر هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى، إن رجال مصطفى كمال باشا وضعوا القرآن في تابوت وحملوه إلى القرى الإسلامية، وهناك راحوا يطلبون من الناس حفر القبور لوضع الميت فيه، وبعد الانتهاء من الحفر كانوا يفتحون التابوت، ويقولون «هذا هو القرآن سوف ندفنه، إذا لم تهبوا لنجدة الإسلام قبل موته».
تسأل عيتاوي عن رأيه بقدوم «السفير» التركي إلى عكار، فيستنكر قائلاً: «بل هو الوزير، وزير الخارجية الذي وعدنا بأن الكواشرة لن تعطش إلا إذا عطشت تركيا. «غوش غالدن» أي أهلاً وسهلاً بالوزير التركي وبتركيا التي لن تتركنا، صحيح أن تركيا كانت تسلط «ناساً على ناس» وهو أسلوب يستعلمه «الاستحلال» لأنه لا يستطيع وحده حكم البلد، وصحيح أنها هي التي حكّمت المراعبة بالفلاحين، ولكننا نحن التركمان لم يكن منا أي «مملوك» لآل المرعبي، لأننا كنا من أبناء الدولة التركية. ولقد كانت عندنا أم عبد العزير عبدو بمنصب مختار في زمن تركيا، كانت تفك المشنوق، ولولاها لكان عبود عبد الرزاق وهو من كبار المراعبة في خبر كان».
عيتاوي وأمثاله من كبار السن يتحدثون في ما بينهم باللغة التركية، ولقد استمر نقل اللغة إلى الأبناء إلى أن «وجدها الأستاذ عزيز» مدرّس اللغة العربية في مدرسة الكواشرة الرسمية معيقة لتعلم اللغة العربية. وكان ذلك منذ أقل من 20 سنة. فالمدرس عزيز سأل يوماً تلامذة الصف أن يَعدّوا أواني المطبخ، فقال أحدهم «طوا يا أستاذ». و«طوا» باللغة التركية هي الطنجرة. عندها طلب المدرس من الأهالي عدم التحدث إلى الأولاد إلا باللغة العربية. لكن المفارقة أن اللغة التركية التي كان ينقلها الأهل ببساطة إلى أولادهم ولم تنتبه وزارة التربية إلى أهمية المحافظة عليها باعتبارها مصدر إغناء للوجه الإيجابي من التنوع اللبناني، وكان بالإمكان رعايتها من دون كلفة تذكر، المفارقة أننا نهلل لقدوم معلمين أتراك إلى الكواشرة وعيدمون ليفتحوا على نفقة الدولة التركية صفوفاً لتعليم اللغة التركية. وقد ناهز عدد الطلاب المنتسبين إلى تلك الصفوف السبعين طالباً.
في المجال الثقافي والتعليمي، لم يقتصر اهتمام الدولة التركية على فتح مراكز لتعليم اللغة التركية في عيدمون والكواشرة وفي طرابلس، بل راحت تخصص منحاً تعليمية على مستويين. المستوى الأول وهو قديم العهد يقول علي عفان الذي تخرج من تركيا في عام 2000 في اختصاص الصيدلية، يشمل هذا المستوى اللبنانيين كافة ويقتصر على عدد محدد من المنح التي تغطي كلفة التعليم في الجامعات التركية، بالإضافة إلى مبلغ مالي يغطي نحو ثلث مصاريف الإقامة. أما المستوى الثاني فهو يقتصر على التركمان وأغلبهم من الكواشرة وعيدمون ويبلغ حوالى العشر منح سنوياً.
هذا الاهتمام التركي الجديد أعاد التذكير بالدم التركي الذي ينتمي إليه التركمان، كما يذكر مختار عيدمون محمد الحاج، علماً بأن القليل من أهالي عيدمون، وهم كبار السن تحديداً، ما زالوا يتحدثون باللغة التركية. ويضيف الحاج أن لا عادات خاصة بنا كتركمان، لكننا اشتهرنا بصناعة السجاد التركي، وهو يحتفظ بنول لحياكة السجاد، باعتباره يحمل دلالة رمزية كما يقول. غير أن صناعة السجاد التركي في عيدمون تلاشت لأسباب عدة أهمها غلاء اليد العاملة والمواد الأولية وصعوبة التصريف.
من ناحية أخرى، يذكر مختار عيدمون أن البلدة تعاني نقصاً في مياه الشفة، إذ تحصل البلدة فقط على أربع ساعات تغذية بالمياه يومي الاثنين والخميس، لذلك سوف «تقدم لنا تركيا إضافة إلى المدرسة بئراً لحل مشكلة المياه في البلدة»، وهو بالمناسبة لا يحمّل السلطة الحالية مسؤولية حرمان البلدة من المياه، إذ تعود برأيه تلك المسألة إلى العهود السابقة. وفي ذلك تبرر عيدا حداد موقف التركمان في بلدتها الذين عانوا الفقر والحرمان عندما دخلها أبناء عائلتها، وكانوا أصحاب صنائع ومهارات علمية وتقنية. بتحفظ وموضوعية تحاول عيدا أن تقرأ بعض التباين بين التركمان والمسيحيين في عيدمون، فتبرر ما تسميه «ردة تعصبية» تستفيد منها التيارات السياسية السائدة هذه الأيام.
في بلدات قريبة من عيدمون والكواشرة أقفل العديد من المدارس الرسمية. وفي الكواشرة كانت بحيرة الكواشرة مشروعاً للري واعداً، بل ظهرت نتائجه الفعلية في سبعينيات القرن الماضي. لكن يبدو أن «أكل الدولة اللبنانية لا يملح»، فأهلاً بالاتحاد الأوروبي وبالوكالة الأميركية للتنمية الدولية. ولمَ لا؟ «غوش غالدن» بوزير خارجية تركيا، فشرق أوسط تركيا القديم يظل أفضل من الشرق الأوسط الجديد.


مشاريع للتنمية الاقتصادية

تشهد عكار في العقدين الماضيين زحمة مشاريع أوروبية وأميركية. وفي نيسان الماضي أكدت السفيرة الأميركية ميشال سيسون بمناسبة افتتاح مركز تطوير الأعمال في حلبا: «أن السفارة الأميركية والوكالة الأميركية للتنمية تدعمان تنفيذ مشاريع للتنمية الاقتصادية عبر هذا المركز»، وأن هذا الدعم سيمتد من حلبا إلى كل أنحاء عكار