في فرن الشباك، قبالة سنتر أبراج التجاري، تفتك جرافة بحيّ يسكنه بعض الفقراء الذين لا يعرفون ماذا يفعلون، فهم التجأوا إلى طائفتهم قبل نصف قرن، ليجدوا سقفاً يستكينون تحته، وإذ بالطائفة ترفع الغطاء عنهم، وتهدم السقف ليتشرّدوا ويناموا في العراء»
غسان سعود
يقف قزحيا وسط الغرفة ـــــ المنزل. يسحب قارورة الغاز بيد، والقدّاحة بيد ويصيح متوعداً: «سأحرق ألف جرّافة لو اقتربت! ليلاً ونهاراً سأبقى قابضاً عليها. فلتقترب من منزلي لأضرم النار فيها». الثورة الصغيرة التي قام بها قزحيا مخلوف تفاعل معها الجيران إيجاباً. فالجرافة كانت قد هدمت بعض منازل الوقف الماروني رغم مقاومة سكانها. يبدأ الكلام عن «لينين والثورة»، معتبراً أن «طرد الإكليروس لعائلة لينين حفّزه على الانطلاق في الثورة»، ثم يصيح: «سأكون لينين القرن الواحد والعشرين». تتشعب الأحاديث في الحديقة الصغيرة قبالة منزل «لينين القرن»: «الوقف هدية من شعبنا لكنيسته»، «يقبضون ثمن المشروع الذي سيرتفع مكان منازلنا ملايين الدولارات، ويستكثرون علينا تعويضاً صغيراً»، «شو بس الخوارنة موارنة؟».
وقزحيا مخلوف ولد عام 1954 في منزل صغير استقرت عائلته فيه منذ منتصف الأربعينات بعد نزوح بعض الأسر المارونية من بلدة بقاع كفرا (قضاء البترون) إلى فرن الشباك للعمل، واستأجرت منازل صغيرة يملكها الوقف الماروني قبالة سنتر «أبراج». قانونياً، على قزحيا إخلاء هذا المنزل الذي هو ملك الوقف الماروني دون أيّ تعويض. فعقد الإيجار يعود إلى عام 1954 وموقّع باسم جدّة قزحيا. والقانون ينص على أن الإيجار القديم يورث جيلين (القانون رقم 160/92) دون أخذه بعين الاعتبار أن قزحيا يعدّ الجدة، التي ربّته بعد وفاة والدته قبل بلوغه السنتين، بمثابة والدة. واللافت أن الجهة المدعية ـــــ الكنيسة المارونية لجأت إلى قاضي الأمور المستعجلة بدل قاضي الإيجارات الذي ينظر عادةً في القضايا المماثلة. وهذا يمثّل سابقة يمكن أن تكون مدخلاً لمشاكل جديدة بين أصحاب المنازل والمستأجرين وفق القانون القديم. إذ يفرض قاضي الأمور المستعجلة على المستأجرين الإخلاء خلال شهرين فقط.
وجهة نظر مسؤول وقف كرسي أبرشية بيروت المارونية الأب عصام أبو خليل مفادها أن «الكنيسة أمّ ومعلمة، ومخطئ من يعتقد أنها أم فقط». مؤكّداً احتضان الكنيسة المارونية لهذه الأسر، وسكوتها عن «قبضهم تعويضات من صندوق المهجرين لم يصرفوا منها شيئاً على ترميم المنازل». وأن غالبية سكان الحي لا يدفعون الإيجار منذ سنوات، وليس لديهم أيّ حق قانوني في السكن، لكنهم رغم ذلك يهدّدون ويتوعدون. و«مَن يجرؤ على مخاطبة الكنيسة بهذه الطريقة يفترض أن يُطرد ويسجن، لا أن تُفتح أمامه المنابر الإعلامية». دون أن ينسى التلميح إلى إمكان تقديم بعض التعويضات إلى بعض المتضررين، علماً أن بعض العائلات أخلت منازلها منذ سنة، وتؤكّد أنها لم تتلقّ أيّ تعويض بعد.
اللافت أن الكنيسة لجأت إلى قاضي الأمور المستعجلة بدل قاضي الإيجارات
لا يبالي قزحيا لا بأحكام القضاة ولا بمواعظ المعلمات. يتذكر طفولته في هذا الحي ـــــ البلدة، وتحويله الطريق العام قبالته إلى منزله. ويشير إلى أنه حين أتت الحرب كانت «سويتي من سويّة الشباب»، فارتدى الشاب الملقب بالـ«بوي» ثياب نمور الأحرار وقاتل في صفوف ميليشيا حزب الوطنيين الأحرار «دفاعاً عن المنزل والأرض». لكن المشاكل بين حزبي الكتائب والوطنيين الأحرار دفعت قزحيا إلى رمي البندقية من يده. ونتيجة رفضه الانضمام للقوات اللبنانية بقيادة بشير الجميل، اضطر إلى توديع والده (الذي توفي عام 1996) والنزوح من فرن الشباك إلى منطقة أخرى تخضع لغير نفوذ القواتيين، تمهيداً للهجرة إلى السعودية، حيث قضى نحو 20 عاماً، عاد بعدها أفقر مما كان حين غادر، علماً أن غياب قزحيا عن المنزل 20 عاماً يسقط حكماً حقه في تمديد الإيجار، ويضعف حجته أمام القضاء.
حين قرر العودة رأى قزحيا أن لديه في لبنان منزلاً، فتوجّه مباشرةً إليه طالباً من ابن عمته إخلاءه. وتوسط لدى صديق لإيجاد عمل يعود عليه بأجر متواضع يكفيه للعيش مع كلبين في المنزل المؤلّف من غرفتين.
منذ نحو عام أطلت مجموعة من القوى الأمنية أبلغت جيران مخلوف أن عليهم إخلاء المنازل التي يملكها الوقف، فسارع هؤلاء إلى مطرانية بيروت للموارنة، معلنين رفضهم مغادرة منازلهم. لكن سرعان ما صدرت أحكام قضائية لمصلحة المطرانية، وعادت القوى الأمنية، في يوم ماطر، بصحبة جرافة لتزيل المنازل تحت أنظار مراقب من المطرانية. رفض بعض الأهالي الخروج من منزلهم، لكن سائق الجرافة ضرب سقف المنزل فاهتز بقوة وهرع السكان إلى خارجه ليتوسّلوا مراقب المطرانية أن يسمح لهم بإخراج فرشهم. وهكذا كان. أمّ طوني التي يعرف أبناء المنطقة جيداً مناقيش الكشك التي تعدّها، أصيبت بذبحة قلبية، فهي تسكن في الكوخ الصغير منذ ولدت قبل نحو سبعين عاماً. لكن رغم المأساة المفترضة لم يحتجّ الأهالي كثيراً، ولم «يكبّروها» لأن هناك وسط رجال الدين من همس في أذنهم أن «مواجهة الجيش الأسود خاسرة حكماً، فكونوا مهذّبين عسى ترأف الكنيسة بكم».
قبل نحو أسبوع، طرق باب قزحيا عنصران من القوى الأمنية لإبلاغه ضرورة مغادرة المنزل لأن المطرانية تنوي تدميره. ابتسم قزحيا للـ«عبد المأمور» الذين لا ذنب لهم، طلب إمهاله بضعة أيام لأن يده مكسورة ولا يستطيع توضيب أغراضه. وما إن أداروا ظهورهم حتى أعدّ اللافتات، وبدأ «تنظيم حملة مقاومة». وفي هذا السياق، يبدو قزحيا جازماً: «ولدت هنا وسأموت هنا، لن أغادر وليدمّروا المنزل فوق جثتي، فأنا لا أملك أجرة سرفيس للعودة إلى بلدتي التي لا أعرف أصلاً أين تقع».
يختتم الحديث في منزل قزحيا بتعليق من مهندس شاب كان يتردد إلى فرن أم طوني، وصارت تجمعه بأهل الحي علاقات وطيدة: «في دولة الطوائف، لا يمكن الكنيسة التمسك بحقها القانوني على حساب حقوق هؤلاء الفقراء الإنسانية».