سند الأمانة» وثيقة تثبت حق صاحب مال باستعادة أمواله من مستدين ما، لكنها في بعض الحالات تتحول إلى وسيلة لاستغلال حاجة شخص ما، ورفع دعاوى ضده لتحصيل المزيد من المال منه. الدائنون في هذه الحال لا يدركون أن السند وحده ليس كافياً لإدانة المُدعى عليهم
نبيل المقدم
تحفل المحاكم اللبنانية بالدعاوى المتكونة حول ما يُعرف بـ«سند الأمانة»، هو وسيلة قانونية يلجأ إليها بعض التجار أو المقرضين لضمان حقوقهم في البضاعة المبيعة أو المبالغ المودعة أو الأقساط المترتبة على عمليات البيع بالتقسيط.
غالباً ما يُوثّق «سند الأمانة» بعقد بين طرفين لدى كاتب بالعدل، أو في مكتب محام، وذلك ضماناً لصاحب المال باستعادة ماله في المدة المتفق عليها، أو حين الطلب كما يوضح المحامي بالاستئناف سلام عبد الصمد الذي يضيف، «وإذا ثبت أن من أودعت الأمانة بحوزته قد تصرف بها خلافاً للعقد المنصوص به بين الطرفين».
لكن هل صحيح أن التعاطي بسندات الأمانة يكون دائماً وفق الغاية التي أوجد من أجلها؟
يُلاحق ممدوح أمام المحاكم الجزائية في بيروت بتهمة إساءة الأمانة، في إطار دعوى أقامها ضده المرابي رضوان، يقول ممدوح: «لظروف قاهرة استدنت من رضوان ألفي دولار ، وهو ربط إقراضي المبلغ بالتوقيع على سند أمانة عند كاتب العدل، أتعهد فيه بإيصال مبلغ خمسة آلاف دولار إلى شخص طرح هو اسمه على السند دون أن يكون لي معرفة به، وفي حال عدم إيصال المبلغ عليّ إعادته إليه عندما يطلبه». بعدما أعاد ممدوح المبلغ أصل الدين إلى رضوان، مضافاً إليه ما ترتب من فائدة ربوية، فوجئ بالمرابي يطالبه بمبلغ الـ«خمسة آلاف دولار كاملاً»، ولما رفض الدفع كانت الدعوى الجزائية في انتظاره.
يرى الباحث القانوني الدكتور خليل خير الله أنه يمكن الطعن بهذا العقد، إذا أثبت المدعى عليه أن أمراً ما، ممنوعاً في القانون يشوب العقد، أو أنه مخالف للنظام العام كتقاضي الفائدة الفاحشة مثلاً، فإذا أثبت المدعى عليه أن سند الأمانة مرتبط بسند آخر يخفي غايات تجارية، يصبح النزاع في هذه الحالة نزاعاً مدنياً ولا يُعدّ جريمة خيانة للأمانة.
كيف يتعامل القضاء مع الدعاوى المتكونة من سندات الأمانة؟
يمكن الطعن بالعقد إذا كان مخالفاً للنظام العام كتقاضي الفائدة الفاحشة مثلاً
يقول مرجع قضائي إن كل ملف من هذه الملفات له خصوصيته، والسند بحد ذاته لا يمثّل الدليل الوحيد والمطلق للبت في الملف المعروض أمام القاضي الذي يُجري التحقيقات والاستجوابات ويستجمع الأدلة لتبيان الخلفية التي من أجلها وُقِّع هذا السند. يضيف المرجع القضائي أن «غالبية الذي يلجأون إلى هذه الوسيلة بهدف تغطية عملية اقتراض ربوي أو عمليات تجارية يعرفون سلفاً ضعف حجتهم أمام المحاكم الجزائية، ولكنهم يعوّلون على هذا السند لانتزاع مأربهم أمام الضابطة العدلية، وخاصة في المخافر ومراكز التحري التي تحوّل إليها الشكاوى للتحقيق الأولي قبل تحويلها إلى المحاكم، بحيث إن الظروف التي ما زال يجرى فيها التحقيق أمام الضابطة العدلية ما زالت في كثير من الأحيان تفتقد إلى الأصول والقواعد التي يجب أن تتبع في هذه الحالات»، يلفت المرجع القضائي إلى نقطة مهمة تتمثل في «الخوف الذي يسيطر على المدعى عليه من أن توقفه النيابة العامة وخاصة أن الظروف التي ترافق غالبية عمليات التوقيف تتسم بالانتقاص من حرية الموقوف وكرامته، كل ذلك يدفع المدعى عليه إلى إجراء تسوية مع المدعي ولو كانت على حساب حقوقه المادية والمعنوية».
يشدد المرجع القضائي على أن بين «الدعاوى المتكونة من سندات الأمانة، هناك دعاوى محقة وخاصة تلك المتكونة في كثير من الأحيان بين الشركات وبعض موظيفها الذي يسيئون الأمانة، بحيث تفضل هذه الشركات إجراء تسوية مع الموظف مسيء الأمانة لاسترداد ما بُدّد من أموال». في هذا الإطار، يقر جورج بأنه «نتيجة لظروف معينة» تصرف بملبغ من المال كان بعهدته ولما اكتُشف أمره أجبر على توقيع سند أمانة يقر فيه بفعلته وبإعادة المبلغ المختلس مقابل عدم الادعاء عليه أمام المحاكم الجزائية، وبعد طرده من العمل ووضع اليد على تعويض نهاية الخدمة اتفقت معه الشركة التي كان يعمل فيها على تسوية يقسّط من خلالها المبلغ المختلس على دفعات.
أما رائد فإن ظروفه لم تسمح له بإعادة كامل المبلغ المختلس من المؤسسة التي كان يعمل فيها، وهكذا جرى الادعاء عليه بموجب سند الأمانة الذي وقّعه وعوقب بالسجن لمدة ستة أشهر وبدفع غرامة مليون ليرة لبنانية.
نصت المادة 671 من قانون العقوبات الجزائية على أن «كل من تصرف بمبلغ من المال أو بأشياء أخرى من المثليات سلمت إليه لعمل معين وهو يعلم أو كان يجب أن يعلم أنه لا يمكن إعادة مثلها ولم يبرئ ذمته رغم الإنذار يعاقب بالحبس حتى سنة وبالغرامة حتى ربع قيمة الردود على ألا تنقص الغرامة عن خمسين ألف ليرة».
لا بد أخيراً، من التذكير ببعض الأحكام والاجتهادات الصادرة عن المحاكم اللبنانية في ما يخص موضوع سند الأمانة.
ففي 8/ 3/ 2005، صدر عن الغرفة السادسة الجزائية لمحكمة التمييز المؤلفة من الرئيس رالف رياشي والمستشارين غسان فواز وبركان سعد قرار قضى بإبطال التعقبات في حق المدعى عليه ف .أ لعدم توافر عناصر جرم إساءة الأمانة. وكان ف.أ قد وقع سند أمانة للمدعي أ . ز مؤرخاً في 18/ 6/ 1995 يفيد باعترافه بترتب سند أمانة بذمته للمدعي بمبلغ 15000 دولار، متعهداً بإعادة هذا المبلغ غب الطلب. جاء في القرار أنه تبين للمحكمة أن المبلغ المُطالب به، والمدعى إساءة أمانة ناتج من فواتير ورد في أسفلها أن البضاعة المستلمة من المدعى عليه مبيعة له، وبذلك نكون أمام علاقة تجارية عادية لا أمام حالة إساءة أمانة. يخلص القرار إلى أن الجهة المدعية لم تبين الوقائع والعلل التي استندت إليها للربط بين الفواتير التي أشار إليها وسند الأمانة المدعى به تبريراً لما انتهى إليه مما يجعله مفتقداً للأساس القانوني وبالتالي مستوجباً النقض.
قرار صادر بتاريخ 28/12/2004 عن محكمة التمييز اللبنانية الغرفة الخامسة المؤلفة من الرئيس مهيب معماري والمستشارين الياس الخوري وجان عيد بإبطال التعقبات بحق س. ي واعتبار النزاع المتكون بينه وبين ش. ح نزاعاً مدنياً، وخلص قرار المحكمة إلى أن المُدعى عليه كان قد وقع للمدعي سند أمانة بمبلغ 8500 دولار، متعهداً بتسليم المبلغ إلى طرف ثالث في السند أو إعادته إلى المدعي في حال عدم التسليم. جاء في القرار أنه تبين للمحكمة بعد التدقيق أن سند الأمانة كان يهدف إلى إخفاء طبيعة الدين المتوجب للمدعي بذمة المدعى عليه، مما يعني أن عناصر جرم إساءة الأمانة المنصوص عليها في المادة 671 من قانون العقوبات غير متحققة في القضية الراهنة لكون النزاع بين الطرفين يتصف بالطابع المدني الصرف ويخرج عن إطار المنازعات الجزائية.


... وللاحتيال وجوه وأساليبفي هذا الإطار، لا بد من التذكير بأن القوانين والتشريعات وُضعت لكبح جماح أولئك الذين يجيدون مقاومة الأساليب المشروعة في التعاطي مع الأنظمة والقوانين التي أوجدها المشترع، ويذهبون في الحفر بعيداً في كل ما يسبب الإرباك والفوضى وطمس كل معالم التعاطي الحضاري بينهم وبين سائر المواطنين.
صحيح أن هذه القوانين والتشريعات نجحت إلى حد كبير في تقليص فرص هؤلاء في إمكانية التعبير عما في نفوسهم من نوايا إجرامية، لكنهم في المقابل، نجحوا في بعض الساحات والمواقع في امتطاء صهوة القوانين نفسها محاولين القفز إلى حيث يمكن أن يتعسفوا في فرض مناهج خاصة بهم، تضع المواطنين الذين يقعون فريستهم أمام مخاطر يصعب الخروج منها.