أنسي الحاجاستهوتني مرّة فكرة مسرح القسوة حيث يُسْتَدرج المتفرّج إلى المشاركة كأنه ممثّل فينتفي التلقّي السلبي لحساب التفاعل. ولم أعتمّ حتّى عدتُ إلى طبيعتي: أجمل الساعات هي تلك التي تجلس فيها أمام الشاشة أو صفحات الكتاب وتتلقّى. ومثلها وأنت تتحوّل إلى أصداء للموسيقى والغناء. ليتني لا أقوم من هذا المقعد، ليت الحركات الواجبة، كتقليب الصفحات وإدارة الأجهزة، تحصل وحدها.
كان كلّ شيء آخر سَلْخاً. كانت السيكارة والشفتان واحداً والدخان هو الكسب الوحيد للوقت. لا، لم يكن ذلك في سبيل مُطْلقٍ ما ولا مَثَل أعلى ولا إزجاءٌ لفراغٍ وجوديّ، بل استسلاماً لذيذاً للجمود. ولم أكن أغادر الجمود إلّا بدافعٍ عدوانيّ، أو انسياقاً مع رخاوةٍ يفضّل صاحبها أن يصير ضحيّة على أن يكلّف نفسه مشقّة إقناع الآخر. لم أعرف إلاّ في الآونة الأخيرة أن طبائعَ مثل طبعي هذا لا تخوض بكفاءة معركة الحياة. وهذا صحيح. لو حكّمنا منطق «البقاء للأصلح» لفَنِيَ كثيرون إمّا من لطفهم وإمّا من كسلهم. في أرحم الحالات يُفْرَدون في مخيّماتٍ أو جُزُر. لكن ذلك يبقى أرأف بهم من إرغامهم على الاندماج في الحياة الواقعيّة على قدم المساواة مع سائر الموزونين والطبيعيّين.
■ ■ ■
في المراهقة لم أكن قد سمعت بعبارة «حياة داخليّة». كان المقياس الطاغي هو الظهور، ووسيلة الظهور الأسهل هي الحضور الخطابي والبراعة، وحكم المجتمع هو شرط «المرور».
حضرتُ مرّة إلى عشاءٍ في منزلٍ كان الضيف الأبرز فيه هو فؤاد حدّاد (أبو الحنّ). لمَن لا يعرفه كان أحد روّاد القصّة القصيرة الحديثة، ومحاضراً فذّاً في تاريخ لبنان، اشتهر بانحيازيّة (هي مزيج من الواقعيّة والصوفيّة) إلى البعد المعنوي لمعنى الوطن الصغير، وهو أوّل مَن استعمل عبارة «لبنان مساحة روحيّة» في الخمسينات من القرن الماضي، وقد دفع حياته وهو في الثانية والأربعين ثمناً لشغفه اللبناني ولتجرّؤ في الكتابة الساخرة المعادية للناصريّة بلغت ذروتها في زاويته اليوميّة «نقدات» في جريدة «العمل» لسان حزب الكتائب. أوّل ما ذاع اسمه في بدايات عشريناته، منتصف الثلاثينات، يوم نال جائزة جريدة «المكشوف» للقصّة القصيرة. وقد ساهم بعدها في «المكشوف»، ثم في «الحكمة» وغيرهما، ناقداً أدبيّاً وتشكيليّاً وناثراً وجدانيّاً وميتافيزيكيّاً، فضلاً عن مئات المقالات السياسيّة هنا وهناك كان ينشرها بلا توقيع. ولفؤاد حدّاد يعود الفضل في رعاية معرضي الربيع والخريف للفنّ التشكيلي اللذين كانت تنظّمهما وزارة التربية التي شغل فيها منصب رئيس دائرة الفنون الجميلة حتّى مصرعه. وممَّن خلفه في هذا المنصب المفكّر جوزف أبو رزق والشاعر جورج غانم.
كان فؤاد حدّاد من محاضري «الندوة اللبنانيّة» لمؤسسها ميشال أسمر، وكانت تربطه صداقة حميمة بشعراء الزجل، وبكأس العرق وفناجين من القهوة لا تنتهي. وكان يكتب في زاوية «نهارك سعيد» في «النهار» مع والدي وسعيد تقي الدين فيسخر دون توقيع من الشيخ بيار الجميّل رغم إعجابه به، ثم يكتب في «العمل» هازئاً بغسان تويني رغم محبّته له. هو جيل آخر، حديث وأصيل، جديد وعتيق، طليعيّ وعريق، جيل آخر من الملعونين، كما كان يحلو له أن يسمّي نفسه وأقرانه. عَبَثيّ قاتم، مستهتر بحياته، حريص حتّى الموت على لبنان، مؤمن وكافر، بَطَل متواضع عميق ويائس.
وكان فؤاد حدّاد، هذا «المَنْجم» كما سمّاه لي مرّة جوزف نجيم، سَكوتاً. كل توتّره في داخله، حتّى ليبدو لمَن لا يعرفه، جامداً. ومع أن مضيفه تلك الليلة كان من رَبْعه، لم يزد عدد كلماته، بين النحنحة والنحنحة، على العشر، كانت في معظمها همساً. وعندما انصرف آخر الليل، وعلى الأرجح إلى إكمال السهرة، انبرى مضيفه يحدّثني عن «الصدمة» التي سيصاب بها معجبو «هذا الكاتب»، لو عرفوا أن «لوذعيّته» تنتهي بحدود الكتابة وأنه «لا يعرف أن يحكي مع العالم كلمتين».
طبعاً ليست قلّة الكلام شرطاً لغنى الحياة الداخليّة ولا للعمق، ولكنّها أحياناً مرتبطة بهما. خاصة حين يكون قليل الكلام بارعاً فيه بل شديد البراعة إذا طاب له الكلام. لكن «المجتمع»، على العموم، لا يُحبّ قليلي الكلام، أو هو لا يقيم لهم وزناً. فـ«الرجل» هو الذي «يملأ» مكانه، وفي الصالونات والمقاهي والمنابر والمناسبات مَنْ أنت إن لم تكن صوتاً وخطاباً؟ وحتّى لو كنتَ مصغياً ممتازاً لمحبّي الكلام فلن يُعفيك ذلك من القيام بدورك حين يأتي دورك في «واجب» الكلام. وبلا رحمة.
لا أَنتقدُ الثرثرة فأنا من الثرثارين. أقول فقط إن المجتمع يخطئ في التقييم مع نوابغ من أمثال فؤاد حدّاد، فيحسبه «غشيماً» بينما المجتمع هو الغشيم. وفي لبنان خصوصاً، حيث الألمعيّة والضجيج قيمتان في ذاتهما وكثيراً ما تقومان مقام الجوهر. ولئن كان ذلك قليل الخطر في البيئات العاديّة والمحض مظهريّة، فخطره يصبح إجراماً في حقول الفكر والأدب والفنّ. وعلى صعيد المسؤوليّة الأخلاقيّة بصورة عامة، كما في التعليم والنقد والتأريخ. وكما في الوفاء.
مَنْ يَذْكر اليوم فؤاد حدّاد؟
■ ■ ■
في دراسةٍ له بعنوان «مقوّمات القضيّة اللبنانيّة» يقول: «إذا كان السيف هو الذي أمّن لكثير من الدول وجودها، فخَطَّ تاريخها وحدّد حدودها، فإن لبنان بلد ما كان له وجود، ولا تَخطَّط له تاريخ، ولا حُفظت حدود لولا بضع قيم أساسيّة يحياها أفراده بعناد رغم كلّ موانع الحياة (...) ولبنان مساحة روحيّة، إن جاز التعبير ـــــ إذا كانت الجغرافيا قد حدّدت شكلها تحديداً بيّناً، إلّا أنّها لا تتأثّر بالطوارئ السياسيّة مهما طال زمانها.
«لبنان لم يتغيّر ـــــ من حيث هو مساحة روحيّة وبيئة جغرافيّة لها إنسانها. بالطبع تَغيّر تخطيطه وشكله السياسي فشكّلَ دولاً ساحليّة، ثم تكدّس في منطقة إداريّة، وتوسَّع وتَقلَّص، وتَقسَّم وتَقطَّع. لكنّ مساحته الروحيّة بقيت على مداها.
حيث يتشبّث الإنسان، رغم كل قواهر الحياة، بمواقف معنوية، يريد أن ينتزع لها تعبيراً في وجوده، دون أن يهتمّ بتسميتها قيماً...».
ويضيف في مكان آخر: «اللبناني فرد حرّ غاية وجوده أن يمارس حريّته، أن يعيشها، وأن يتملّى من الحياة. يقضي عمره ينتزع الحريّة، يستبقها، يحافظ عليها، ومساعيه كلّها طوال مرحلة وجوده، منذ أن يبدأ بازدراد العلوم بسرعة، إلى أن يروح يتاجر بالعينيّات التي انتزعها، وهو يغامر أو يناضل، وهو يكدّس المال، وهو يحتال، حتّى وهو يشرب العَرَق، وحتّى وهو ينتهر الغير بالرصاص ـــــ مساعيه كلّها أن تتوافر له المقوّمات التي تُسهّل له ممارسة الحريّة.
«بالطبع هذا التعريف لا يختص باللبناني ـــــ هو تعريف الإنسان إطلاقاً. ولكنه عندما يُطبَّق على الإنسان إطلاقاً يبقى تعريفاً نظريّاً، فلسفيّاً أو لاهوتيّاً. أما على اللبناني فهو صورة الواقع.
«والذي يميّز اللبناني هو أن عليه أن يسعى يوميّاً لتأمين مقوّمات وقتيّة لحرّيته، ينتزعها من بيئة صعبة أساساً، وفي كلّ يومٍ وفقاً لمعطيات مستجدّة مفاجئة.
«هذه هي الطاقة الدافعة الفاعلة في حياة الأفراد اللبنانيين، وبالتالي في التاريخ اللبناني، منذ آلافه البعيدة، وذلك هو المحور الذي تدور حواليه الأحداث وتتكيّف».
■ ■ ■
مع فؤاد حدّاد وسعيد تقي الدين، وعلى صعيد آخر، صعيد الغنائيّة، مع فؤاد سليمان («تمّوز»)» إعادة نبض اللغة المحكيّة إلى اللغة المكتوبة. مارون عبّود سبّاق، لكن عينه ظلّت على الأصول، لم يشطح، كل الألفاظ الدارجة التي استعملها فصحى أو مغمورة بالفصحى. سعيد تقي الدين بين بين، زدْ أنه ابتكر كلمات. إسكندر الرياشي اخترع لغة لا هي عاميّة ولا فصحى بل عبارة عن مزاج تارة ينفجر وطوراً يقف مزمجراً على شفير الانفجار.
فؤاد حدّاد أضاف إلى حيويّة الدارج توظيف الفصحى في خدمة الدارج بل في خدمة الصدمة المراد إحداثها في القارئ. ومحلّ السخرية العاقلة عند عبود والهزء الهادف عند تقي الدين والعبثيّة الفضّاحة عند الرياشي أدخل السخرية المحروقة. السخرية المفحّمة. المحروقة قهراً، يأساً، غضباً، والمفحّمة بزخم مرارة يبعثها مشهد الوطن الصغير المزروك على الدوام في مواقف المستضعَف أو المهدّد، والوطن هنا يأخذ في نفس الكاتب تارة صورة الأب، المهاجر الذي حُرمه الكاتب صغيراً، وطوراً صورة الأمّ، الصحافيّة والأديبة حبّوبة حدّاد التي عادت وتزوّجت، مدخلةً إلى حياة الطفل بديلاً من الأب، بدا كالتسلّل الاحتلالي أو الاحتلال المتسلّل إلى الداخل عن طريق استمالة الجناح الأضعف...
يخطئ مَن يعتقد أن مثل فؤاد حدّاد، الذي فجّر اختطافه وقتله ظهر يوم الجمعة 19 أيلول 1958 ما عُرف بـ«الثورة المضادة»، هو ظاهرة نادرة. بل يمكن القول إن هذا النوع المحموم من الشغف بلبنان قد وَسَم أجيالاً بكاملها، على الأخصّ منذ مرحلة ما بين الحربين العالميّتين، ولم يقتصر ظهوره على الأوساط السياسيّة والحزبيّة والصحافيّة، بل تعدّاها إلى المدرسة والجامعة، وأدرك ذروته في ما عرفه لبنان من ازدهار أدبي بلغ من القوّة ما حمل بعض المحلّلين العرب على تلقيبه بـ«الإمبرياليّة اللبنانيّة الفكريّة والأدبيّة». كان فؤاد حدّاد ابناً شهيداً لهذه الحقبة بل أحد آبائها، ورغم قلّة منشوراته «الرسميّة» وضياع تراثه الأدبي والصحافي في غمرة الإهمال والاستهتار، سيبقى مرجعاً لفهم المعاناة اللبنانيّة عامّة وجنون الحريّة عند اللبناني بوجه خاص. وقبل هذا وبعده كان فؤاد حدّاد، ابن الباروك والبيروتي التائه، عنواناً لبلاغةِ الصمت في مجتمعات الخطابة والثرثرة، ورمزاً من رموز الخصب الخلّاق والمهدور وغير العابئ باسم ولا بشهرة. لقد تَعلَّق بلبنان كما يتعلّق شاعرٌ بصورةِ حبيبته، وكما يهيم اليتيم بفكرة الأمّ، وكما تتشبّث شجرةٌ بجذورها في أرضٍ مهدّدة بالتصحُّر والطوفان، ولم يعنِ له الوطن رضى عن الذات بل تطلّباً مُطْلقيّاً ومعذَّباً، ولم يَخَف وهو متوجّه ظهر 19 أيلول إلى مكتبه في وزارة التربية والفنون بقصر الأونيسكو، لم يَخَفْ أن يخطفه «الثوّار» في أحد معاقلهم، ولا خاف الموت، بل لعلّه توجَّه إليه عَبْرهم على خطى صديقه المسيح الذي تَوجَّهَ إلى الموت عبر تلميذه يهوذا.
أتيحَ لي شرف معرفة فؤاد حدّاد في مطلع شبابي. لم تتجاوز لقاءاتي به الأربعة أو الخمسة. وتلفون واحد هو أوّل اتصال أتلقّاه من أحد. قرأتُ له الكثير، وندمي كبير أنني لم أقرأ أكثر يوم كانت الفرصة متاحة. ولن أنسى حضوره، وتوهُّج هدوئه، وسحيق غور كلامه. كان كراهبٍ عَبَثيّ، بل كراهبٍ في قلب راهب. ولن أنسى لحظة خَطْفه، وكيف أشاعت فيَّ رعباً كيانيّاً لا تزال أصداؤه تُخلّع صدري كزلزال.
■ ■ ■
حين تُغيّم، يتذكّر العصفور الأماكن الآمنة. وحين تتحرّك الرمال المبتلعة يتطلّع الخاطر إلى الجبال. أكثر مَن يعطي الشعور بالأمان والثبات هم، بَعْد الأمّهات، أولئك الأشخاص الذين تماهت قيمهم مع سلوكهم وانسكبوا في أحلامهم انسكاباً. حتّى لو تباعدت بينك وبينهم المسافات. هؤلاء هم منائر البشريّة، هذا في كتابته وذاك في موسيقاه، وهذا في رؤاه وذاك في اختراعه، هذا في ظلال وجهه وذاك في موته. وما كانت ديارنا ستكون لولا هؤلاء الغرباء...