هل تفوح الروائح الزكية من سوق العطّارين الأثرية مجدداً؟ لا يبدو ذلك وارداً في المدى المنظور، أو هذا على الأقل ما تستشفّه من المعنيين، إلّا إذا حصلت معجزة وأُعطي شاغلو المحالّ الحاليون حقوقهم وعاد العطّارون إلى مكانهم الطبيعي يؤنسون المصلين في الجامع المنصوري الكبير
طرابلس ــ فريد بو فرنسيس
يُجمع أصحاب محالّ العطارة في طرابلس على أنّ السلطان نصر قلاوون، حاكم طرابلس قديماً، تعمد أن تكون سوق العطّارين ملاصقة للجامع المنصوري الكبير، كي تفوح رائحة العطر الزكية على المصلين الآتين إلى الجامع من أهل المدينة أو من خارجها، لما تعنيه هذه الرائحة للمؤمنين والمصلين. الجامع لم يتغير، بل تحسنت أوضاعه كثيراً بعدما أعيد ترميمه، أما الذي تغير فهو سوق العطّارين من حيث الشكل والمضمون، فأصبح عبئاً على الجامع والمصلين معاً بعدما تبدلت وجهة استعماله وغابت روائحه العطرة وقلّ العطّارون فيه.
على يمين مدخل سوق الصاغة في الأسواق القديمة للمدينة، وقرب الجامع المنصوري الكبير، يقع سوق العطّارين. ما إن تدخله حتى يُخيَّل إليك أنك أخطأت العنوان. فبسطات الخضار والفواكهة منتشرة عند المدخل، نساء تقدمن في السن يوضبن رزم البقدونس والنعناع والهندباء والسلق والبصل... وغيرها، تمهيداً لبيعها للمتسوقين.
أصبحت سوق العطّارين عبئاً على المصلين بعد تغيير وجهة استعمالها
«هل يُعقَل أننا في سوق العطّارين»، سألْنا أحدَ المارة الذي أجاب: «أجل أنت في أول السوق، وهو يمتد على مسافة ثلاثمئة متر إلى الداخل، ويمكنك الذهاب يميناً أو يساراً وتبقى داخلها». في التعمّق أكثر داخل السوق، يلاحظ المرء الفوضى المنتشرة فيه: شاحنات الخضار تفرغ حمولتها على المحالّ، متوقفة وسط الممر الرئيسي، ما يعرقل حركة المشاة، أصحاب المحالّ مدّوا بسطاتهم إلى الرصيف المخصص للمشاة خارج المحالّ، المياه المصبوغة بالأحمر تنساب من بسطات السمك ومحالّ اللحوم والدجاج في وسط الممر، مُحدثة البرك الصغيرة والمنوعة، وناشرة عطورها المميزة.
ماذا بقي من سوق العطّارين؟ «رزق الله على أيام زمان يوم كانت رائحة العطور ترشدك إلى السوق»، يقول أسعد مرعي، الرجل السبعيني صاحب أحد المحالّ التجارية، ويضيف: «كنتَ في حينها لا تحتاج إلى دليل كي يوصلك إلى سوق العطّارين، فالرائحة الزكية التي كانت تفوح في المحيط هي دليلك الوحيد».
لم تستطع سوق العطّارين في الأسواق القديمة في مدينة طرابلس أن تحافظ على عملها الأساسي كما فعلت الأسواق الأخرى، مثل «سوق البازركان، سوق النحاسين، سوق الصاغة... وغيرها». في الماضي كانت السوق أشبه بصيدلية كبيرة، «وهي تستند إلى منافع الأعشاب لمعالجة الكثير من العوارض الصحية، كالدهون والرشح وأوجاع البطن». ومع أن هناك عودة إلى الأعشاب في معالجة الكثير من الأمراض، يقول العطّار خالد الرافعي الذي يزاول المهنة منذ خمسة عقود، غير أنّ السوق تغيّرت كثيراً وتضاءلت محالّ العطور فيها، فلم يبقَ سوى ثلاثة محالّ فقط لبيع بالعطور، فيما تحولت المحالّ الأخرى إلى بيع الأسماك واللحوم والخضار والدجاج والحلويات بطريقة عشوائية وغير صحية، فيما تخلى البعض منهم عن السوق ليبيع العطور في مكان آخر.
ويروي كمال الشهّال، أحد الذين نقلوا محالّهم من السوق إلى ساحة النجمة، أنّ أجداده مارسوا المهنة منذ عام 1907، «وأنّ طرابلس توسعت كثيراً ولم تعد محصورة بالأسواق، فتمددت حركة العمران واتسعت رقعة الزبائن لتشمل كل لبنان، والناس اليوم يعشقون التسوق الأسرع والأسهل، وفي ظل الفوضى الحاصلة داخل السوق، قررنا فتح محل لبيع الأعشاب في هذا المكان». ويقول: «انتقلنا بالعطارة من القديم إلى الطريقة الحديثة، فقد كانت المحالّ قديماً كناية عن أكياس من القماش مملوءة بالأعشاب الطبية وموضوعة عشوائياً بعضها فوق بعض. رتبنا الأصناف ووضعناها في مستوعبات زجاجية لتبدو البضاعة واضحة للعيان أمام الزبائن، وبعيدة عن الغبار والأوساخ». يضيف: «في الأصل، أنشئت سوق العطّارين لهدف محدد قرب الجامع المنصوري الكبير. أما اليوم فقد تغيرت وجهة استعمال السوق وأصبحت مليئة بمحالّ الخضار والأسماك واللحم، وحتى الملابس والأحذية، ما دفع الكثيرين إلى ترك المهنة نهائياً، أو إلى الخروج من السوق الأثرية الشهيرة، ولم يبقَ داخل السوق سوى بعض المحالّ التي تبيع العطورات. ومن يقصدها اليوم لا يقصدها لشراء العطور فقط، بل للتبضع، نظراً إلى الأسعار الشعبية التي يحظى بها الشاري من أصحاب المعروضات المتنوعة».
ترك بعض العطّارين المهنة وخرج آخرون للاسترزاق في مكان ثانٍ
يستعيد الشهّال صورة العطّار «الذي كان في ذلك الوقت الطبيب والمرجع، فلم يكن يقتصر دوره على بيع العطور والأعشاب، بل كان الطبيب والصيدلي في آن، حتى إن بعضهم كانوا يعدّونه بمثابة الطبيب النفسي، فيلجأون إليه تارة عندما كانوا يعانون مشاكل عائلية، يطلبون منه الاستشارات، وطوراً حين يسألون عن وصفة معينة تناسب حاجاتهم». يتابع: «أمّا بعضهم الآخر، فكان يطلَق عليه لقب الصيدلي، لأنه كان يعطي الأدوية المناسبة لكل مرض، ولأنه يصنع بنفسه أدوية من خلاصة الأعشاب لمعالجة بعض الأمراض». وهو إذ أشار إلى اختياره مكاناً آخر غير السوق لتطوير مهنته، لفت إلى «تحويل الزوار وجهتهم عن زيارة السوق للتبضع بسبب الروائح الكريهة التي تنبعث منه، والتي لا تتناسب مع روائح العطور».
هكذا، لحق الإهمال الطرابلسي الرسمي والشعبي بسوق العطّارين الأثري، ولا يبدو أن الطرابلسيين يدركون تماماً أهمية الحجارة التي تحتضنها هذه السوق، فعبثوا فيها فساداً في ظل غياب أي رقابة محلية كانت أو رسمية، وما يحصل في السوق اليوم من انتهاكات فاضحة لتاريخ المدينة القديمة أكبر دليل على أن هناك مرافق هامة في تلك المدينة التاريخية تسلك طريقها نحو الاندثار.
وتستبعد د. راوية مجذوب بركة، رئيسة مركز الدراسات العليا المتخصصة بالترميم في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية، إعادة سوق العطّارين إلى سابق عهده في وقت قريب، إلاّ إذا توافر المال اللازم لإعطاﺀ الشاغلين الحاليين للمحالّ حقوقهم، «لنتمكن في ما بعد من تنظيم السوق وعدم السماح لأيّ كان بتشغيل محله إلا في مجال العطارة، والقضاء على الفوضى التي تعمّ الاسواق القديمة منذ الحرب اللبنانية».
وليس عن عبث، كما تقول مجذوب، أن تُبنى في محيط الجامع المنصوري الكبير الأسواق التي لا تزعج المصلين، فعند المدخل الشرقي للجامع، تقع سوق العطارين التي تفوح منها رائحة العطارة، وفي الجهة المقابلة بُنيت سوق الذهب، أي سوق الصاغة، وبالقرب منها أنشئ خان الصابون، الذي تفوح منه رائحة الصابون العطرة. أما الأسواق التي تضم حرفاً مزعجة نسبياً، فكانت تُبنى خارج المدينة القديمة أو على ضواحيها.