الرصيف والكلاب


ضحى شمس
والقصد حرفيّاً الكلاب. تلك الحيوانات الأليفة التي يبدو أنها تتكاثر في بعض أحياء بيروت المرتاحة مادياً على الأخص. وحين نقول يبدو، فلأننا مضطرون إلى استنتاج ذلك من «آثار» تلك الكلاب على أرصفة المدينة، المتكاثرة لدرجة بدأت تشير إلى بداية مشكلة نظافة في بعض الأحياء. لا بل إن مستمعاً اتصل بإذاعة محلية (صوت لبنان) ليشتكي مما آل إليه محيط حديقة السيوفي في الأشرفية، مثلاً. وإن كان المشاة في بيروت لا تنقصهم معوقات المشي بسلام على الأرصفة لأنها «مغيّبة» بمصادرة ذوي العجلات كموقف لسياراتهم، أو لأنها تحولت إلى طريق بديل للدراجات النارية في سعيها الدؤوب إلى الزوربة، أو لمجرد عدم استواء الأرض، إلا أن صعوبة جديدة تضاف إلى ما تقدم، «تتوسط» الرصيف، وأحياناً في أكثر من موضع تبعاً لحالة معدة الحيوان. لا بل إن بعض أرصفة الأحياء الداخلية في بدارو وسامي الصلح وكليمنصو، مثلاً، أصبحت أقرب إلى دورة مياه لكلاب أولاد المنطقة، ما يدفعك إلى النزول عن الرصيف والمشي على الإسفلت إلى جانب السيارات. فألف سيارة ولا مرة واحدة (..) شيء على وزنها، يعلق في نعلك سهواً.
المشكلة ليست جديدة، من سنوات كان المشي في عاصمة الأنوار، باريس، محفوفاً بمخاطر الدوس سهواً على مخلّفات كلاب الحي. وهي مسألة كانت لسنوات مشكلة البلدية هناك. فالفرنسيون يحبون الكلاب والقطط (في الشتاء فقط ويكرهونها في الصيف فيرمونها في الشارع قبل توجههم إلى العطلة)، مع أن منازلهم صغيرة ولا حدائق فيها. وبما أنه يجب تمشية الكلب ليقضي حاجته... خارجاً، فإن أرصفة الأحياء السكنية كانت تمثّل تحدياً لمن يريد التنزه هائماً مع أفكاره. وعندما طفح الكيل، قامت بلدية باريس بحملة توعية بعنوان «أحكي له عن الكانيفو». والكانيفو، بالفرنسية، هو ذلك المجرى الصغير الواقع عند التقاء الطريق الإسفلت والأرصفة، الذي تستخدمه البلدية في تنظيف المدينة عن طريق جريان الماء. هكذا، تفتح المياه فتجرف إلى المجارير، مخلفات رماها الزبالون في «الكانيفو»، بما فيها براز الكلاب الذي اقترحت البلدية على الناس أن يعلموا حيواناتهم ألا يفعلوها إلا فيه. وبالفعل تحسن الوضع كثيراً خلال شهور.
لكن في لبنان حيث الأرصفة «سطر أيه سطر لأ»، لا «كانيفو» ولا من يحزنون. لا بل إني لا أعرف إذا كان بعض مقتني الكلاب مهتمين بتعليم كلابهم أي شيء غير أن تكون متمماً لمظهرهم الشخصي. فتقليد التقليعات تقليد عندنا، تماماً كما فعلوا حين «باعوا» شباناً للنساء بالجميزة من أجل عمل خيري مقلدين في ذلك تقليعة أميركية. والفرنسي عادة يبحث عن رفيق باقتنائه حيواناً أليفاً، لذلك يعتني شخصياً به: يطعمه ويغسله ويحدثه ويأخذه إلى البيطري و... يمشّيه ليقضي حاجته، إلا أن انتقال هذه «الهواية» إلى الكثير من اللبنانيين لا يبدو من الفصيلة نفسها!
فأنت لا ترى لبنانيين يمشّون كلابهم في الشوارع مثلاً، بل خادمات أجنبيات، في مرايلهن الخدماتية الزرقاء أو الزهرية، وقد أمسكن برسن الكلب ورحن يمشينه شاردات، مستفيدات من هذه الفسحة، للالتقاء ببنات أوطانهن اللواتي يعملن في الحي ذاته فيتجاذبن أطراف الحديث باللغة الأم، أو يلتقين ببنات مهنتهن، التي تمثّل هي الأخرى وطناً آخر لهن. هذا لا يعني أن اقتناء كلب هو في حد ذاته «تشبيحة»، لكن أماكن الكلاب في قرانا أو مدننا كانت دائماً في البستان أو الحديقة، خارجاً، حيث يعرف الكلب أين يتبول من دون معلم. ويبدو أن الخادمات الأجنبيات يقاسمنني وجهة النظر هذه. فقد شهدت مرة على «اشتباك طبقي» بين كلب «كانيش» مزحلط مزفلط، يلبس الكشاكش الحمراء، مشذب الذيل كأنه خارج لتوّه من عند المزين، مصطنع الشكل لدرجة أنك تشك بأنه «حاقن سيليكون»، والخادمة الأثيوبية الشابة بمريول خدمتها الأزرق، التي أخذت تلبطه غاضبة بقدمها، ربما لأنه كان يرفض أن يقضي حاجته، أو لأنها ببساطة لا تفهم كيف من الممكن أن تكون آتية من «آخر ما عمر الله» لتعمل، فتجد نفسها تسخر نفسها لإقناع كلب بقضاء حاجته.
في مقالة لزياد الرحباني لاحظ أن الكلاب الشاردة «لا تفعلها» في الشارع. وبعيداً عن التفسير الذي يسوقه الرحباني، عن نوعية الطعام وكرامة الحيوان الفقير، فإن التفسير المعقول لذلك هو أن كلاب الشوارع تقصد الأحراج أو البرية القريبة لتفعلها، لكن كلاب الشقق المأسورة لا تستطيع. ربما لذلك يتوجب سن قانون ليفهم مقتنو الكلاب أن العيش مع كلابهم في الفسحة العامة له أصول. وأن إرسال الكلب إلى رصيف الشارع بنية أن يعملها بعيداً عن أنوفهم، يجب أن يتم مع كيس ورقي للمخلفات، وربما يجب التشدد بمعاقبة المخالفين، وإجبارهم على الغرامة الضخمة التي يجب أن يغرموها، دفع بدل حذاء جديد للمتضررين، وبالطبع لمّ ما سقط من مؤخرات كلابهم ولو احتجوا أنه سقط سهواً.