33 عاماً مرت على تهجير الكرنتينا الكبير. بعد كل تلك الأعوام، ثمة أمر ما زال يذكر بتلك المأساة: عودة منقوصة للناس مرهونة بقرار سياسي وبإخلاء الجيش اللبناني لعقارات بعض الأهالي
راجانا حمية
في هذا اليوم قبل 34 عاماً، عُطبت الحياة في الكرنتينا. ظللتها بشاعة موت حلّ على حين غفلة. موت بالقتل، ساق 300 شخص كانوا يظنون حتى لحظة موتهم أنهم يملكون غدهم. لكن، في الحرب لا شيء يضمن الغد، فكيف إذا كانت حرب «تطهير» كتلك التي شنتها القوى المسيطرة، إبان الحرب الأهلية، على الكرنتينا عام 1976 حين أرادت أن تكرّس الفرز الطائفي.
قال «المنتصرون» في حينها إن الحروب هكذا: كان لا بد من قتل هؤلاء وتشريد نحو 20 ألفاً وتحويل بيوتهم إلى ثكنات «أمر واقع»، لحسن إدارة الحرب آنذاك.
وفي حينها أيضاً، قال أبناء المنطقة إنهم قبل هروبهم شاهدوا كيف اقترب الموت من أسرّتهم. كيف خرج المحاربون إليهم. وكيف تبادلوا أنخاب النبيذ فوق رؤوس ضحاياهم من القتلى المدنيين.
اليوم، بعد تلك الأعوام. لم تُشف الحياة تماماً في الكرنتينا. صحيح أن الحرب انتهت، وكذلك ثكنات «الأمر الواقع»، لكن، ثمة ما لم ينته: ملف متخم بأسماء المفقودين وذكريات الموت البشعة والعودة المنقوصة، المقرونة بـ«احتلال بيوتنا»، كما يصف الأهالي إشغال الجيش بعض عقاراتهم. فرغم صدور قرار رسمي في عام 1993 لإعادة أهالي المنطقة المهجرين إليها، إلا أنه لم يطبق كاملاً. عاد جزء من الحياة إلى المنطقة، فيما الجزء الآخر والكبير نسبياً ما زال رهينة إعادة كامل عقارات المنطقة، والبالغة نحو 150 عقاراً يشغلها عناصر من الجيش اللبناني. كان وجودهم حتى عام 1993، مقروناً بإعادة «التهدئة»، إلى أن صدر القرار الثاني في 28 آب 1996 والقاضي بـ«إخلاء المنطقة من أي وجود قائم»، وإعادتها لأصحابها.
الآن، مرت 34 عاماً على الحرب، ونحو 14 عاماً على إشغال تلك العقارات، فيما المنتظرون ينتظرون. وخلال تلك الأعوام، بدأت لجنة مهجري المدور ــــ الكرنتينا، نشاطها باتجاه قيادة الجيش. لكن، لا جواب. وقد دفع هذا الصمت «العسكري» الأهالي إلى توسيع مروحة المطالبة، فكانت الوجهة وزير الدفاع خليل الهراوي في حينها، وكان الجواب: «صبرتم 30 سنة، اصبروا بعد شوي»، يقول حسين الخطيب، أحد أعضاء لجنة العودة.
بدأ الأهالي يخافون من «اللاعودة»، وخصوصاً أن «الموضوع بدأ يتخذ منحى سياسياً»، يتابع الخطيب. بدأت الأسئلة تكثر: هل وُضع فيتو على عودتنا؟ هل لأننا مسلمون وسط منطقة مسيحية؟ ما الذي سيحل بممتلكاتنا؟
لم تحظ أسئلتهم بالأجوبة الشافية، إلى أن خرجت قيادة الجيش عن صمتها، معلنة في كتاب موجه إلى اللجنة أواخر العام الماضي، أن «نية الإخلاء موجودة والمسألة عالسكة، لكن الأمر يحتاج إلى سنتين أو 4 سنوات لإيجاد المكان البديل».
هنا، ما عاد مطلوباً التوجه إلى المؤسسة العسكرية، فكانت الوجهة نحو القيادات السياسية. وهنا أيضاً، لا جواب محدداً.
لم يعد أمامهم سوى «الرحمة»، كما يرددون. أما إن أرادوا زيارة أملاكهم، فهم يحتاجون إلى ترخيص من القيادة العسكرية، أو الدخول ببعض تحايل.
هكذا، بالتحايل، دخل محمد ديب الثكنة. لم يبك، لكن تلك الدمعة كانت حاضرة للفرار من عينيه الصغيرتين. كان يتكلم، ولكن لا أحد يفهم ماذا يقول. كأنها هلوسات. لم يفهم الحراس سبب تأثره. خرج من الثكنة ليتجول في المنطقة التي عاشها 16 عاماً، قبل الاجتياح. مشى بين الأزقة. تغيرت ملامح المنطقة، بعد كل هذا الغياب. لكنه، لا يزال يحفظ الأماكن الحقيقية لما كان موجوداً فيها.
يدخل حيّ جيرانه. يتذكرهم ويتذكرونه. هم ممن عادوا مع بداية إقرار حق العودة في عام 1994. تصرخ إحدى السيدات له من نافذة لا تزال آثار إصاباتها بطلقات الرصاص موجودة بقوة «مش الحاج محمّد؟». يجيبها بلكنته البدوية المحببة «هو أني، كيفك يا ميليا؟». تدعوه ميليا لشرب فنجان شاي، فلا يتردد. يصعد إليها، حاملاً «رشقاً من سلامات الأهل». في الجلسة الخاطفة، يسترجع الجاران السابقان الحياة الفاصلة ما بين التهجير واللقاء الآن، وحكاية العودة. قالت إن الأهالي لم يعودوا جميعاً. عاد جزء صغير فقط، وهم أصحاب البيوت «التي لا تزال واقفة». عادوا يرممون حياتهم من «اللحم الحي»، كما قالت، فالتعويضات التي حصلوا عليها كانت محصورة بين 7 ملايين و15 مليون ليرة، فقط لا غير (عام 1994). يعني «من الجمل دينتو»، يقول أحد العائدين خالد السعيد. لا تعويضات، ولا حياة «متل العالم والناس، المياه بالكاد تصل والكهرباء يدفعوننا غرامات عن أيام الحرب».
هكذا، يعيش من عاد من أصحاب البيوت الواقفة. لكن، ماذا عن الأبنية المدمرة؟ يقول المحامي حسن مطر، وهو المسؤول عن لجنة مهجري المدور ــــ الكرنتينا أنه لا قرار إلى الآن بالعودة إليها، وخصوصاً في ظل «المرسوم 322 الذي يضمن إعادة المهجرين إلى مناطقهم وإعفائهم من الرسوم وإعادة بناء ما كان، ولكن فقط في القرى والبلدات». إذاً، لا بناء في المدن. لذلك، حاول الأهالي المطالبة بتعديل المرسوم، فعملوا بمعاونة وزير المهجرين في حينه النائب وليد جنبلاط على تعديله من خلال إضافة «المدن»، تحضيراً لدراسته وتحويله إلى المجلس النيابي. لكن، لم يحصل شيء من هذا، مات قبل أن يصل إلى المجلس النيابي. وهو ما يطرح التساؤل عن الاستثناءات التي حصلت في المنطقة، ومنها المجمع الماروني الذي أُعيد إعماره على الرغم من دمار أرض الرهبانية المارونية الكلي. الكل يرفض الإجابة، فيما الأهالي يعتبرونها بمثابة إشارة إلى أن عودتهم مستحيلة. رغم إيمانهم هذا، يقول أحد مخاتير المنطقة فرنسوا جلخ إن «50% من السكان عادوا». وثمة من يؤكد أن «العودة حصلت وتمام». ويشير مصدر في وزارة المهجرين، رفض الكشف عن اسمه، أن «الوزارة أنجزت 670 ملفاً من ملفات الترميم». ويضيف «لا أعتقد أن هناك سبباً يمنع عودة الناس إلى أمكنتها، ما في بيت محتل إلا وأخليناه»! وماذا عن المباني التي يحتلها الجيش؟ يقول مصدر في وزارة المهجرين رفض البوح

يخاف الأهالي من «اللاعودة»، لكون الموضوع يتخذ منحى سياسياً

باسمه «كلو بدو قرار سياسي». وماذا عن الأبنية المدمرة؟ يقول إن «المباني المهدمة أكثر من مشكلة، وقد تكون أول مشكلة هو التغيير بالمخطط التوجيهي للمنطقة». أما السبب الثاني، فهو «عدم امتلاك الجميع رخص بناء شرعية، كما أن معظم العقارات صغيرة لا تسمح بالبناء، فيما العمار لم يكن يوماً حضارياً». ثم هناك «سبب ثالث هو قصة المرسوم 322». الوزارة غير متحمسة لتعديله «لأنهم مخالفون»، ويسأل: «كيف سنعيد بناء خوازيق عند المدخل الشمالي لبيروت؟» خوازيق؟ لا يرف له جفن وهو يقول ذلك لا بل يستطرد: «بعدين، التهجير ليس دائماً يضر، في تاريخ الشعوب هناك ناس ما كان خاطر على بالها تطلع من الضيعة على المدينة وهياها طلعت»!
يستغرب محمد دياب، أحد المهجرين جواب هذا المسؤول، حين نقلناه له «فليعطنا إذاً بدل الخوازيق حقنا بعدل الله». لا يجد الشاب الذي خرج من الكرنتينا هارباً بسنواته السبع سوى التساؤل: «لمَ ستعود الدامور خمسة (مع الأصول والفروع) والكرنتينا لا تعود؟». الجواب حاضر دائماً لدى «المسؤول»: "لأنه ما فينا نطبق الأصول والفروع في منطقة مخالفة، عقاراتها لا تسمح بإعادة البناء على ما كانت عليه أصلاً وبعدين كله بدو قرار سياسي». وفي انتظار هذا القرار، «إما العصا أو الجزرة يا أهالي الكرنتينا»، يقول حسين الخطيب!


صولات وجولات لا جواب لها