للسنة السادسة عشرة جالت «فرح العطاء» وعدد من المدارس والجامعات على السجون اللبنانية الأربعة والعشرين. متطوّعو الجمعية وطلاب أمضوا يوم عطلتهم بين السجناء، كمحصّلة لعمل شهرين أمضوهما في جمع تبرعات للسجناء على شكل كنزات صوف
آمال خليل
جولة هذا العام لاقت اهتماماً أكبر من حرّاس السجن وفرق إداراته، وحرصاً على التعاون وشرح ظروف السجن وأحوال السجناء. تعاون تربطه المتطوّعة في جمعية «فرح العطاء» سارة ونوس «بالاهتمام العام المستجد لدى الكثيرين بالسجون في لبنان، مع الحملات الإعلامية المكثّفة باتجاهها».
حاولت سارة استيعاب شكاوى عشرات السجناء المتحلّقين حولها ومطالبهم. الشابّة تتوسط إحدى زنازين سجن النبطية الثلاث، في إطار جولة قامت بها الجمعية على السجون لتوزيع كنزات الشتاء وبعض أدوات التنظيف. بالكاد ترى سارة السجناء بسبب العتمة، التي تضرب الزنزانة ولو في منتصف النهار، إضافةً إلى سحابة من دخان سجائرهم. عرّفت عن نفسها وعن فريق المتطوعين الذي يرافقها بهدف توزيع تلك المساعدات والتواصل معهم، والاطمئنان إليهم واستعراض حاجاتهم. الكنزات وأدوات التنظيف، الهدية، لم تحرّك ساكناً في سجينين نائمين على فرشة إسفنج متفسّخة في إحدى الزوايا. لم يوقظهما سوى عرض سارة بتوفير محامي دفاع لمن لا يملك، وبإيصال رسالة ممّن يرغب إلى أهله. تسابقا إليها طالبَين المساعدة لإنقاذهما من التوقيف على ذمة التحقيق، الذي طال لأكثر من ثلاث سنوات. تقول «لكل منكما كنزة وصابونة ومسحوق غسيل»، فيقولان «نريد الإنصاف والمحاكمة». وتتصاعد الشكاوى والمظالم في فضاء الغرفة الرطبة والمكتظة، وذات الرائحة الكريهة التي تسهم في إذكائها المياه المبتذلة التي تتساقط من السقف.
74 من أصل 97 سجيناً بينهم ثلاثون أجنبياً لم تصدر أحكام بحقّهم
سبعة وتسعون سجيناً وصفوا أنفسهم بالمظلومين، رغم التهم الموجّهة إليهم: مخدّرات وقتل وسرقة... بعضهم يعترف بجرمه، لكنه لا يبرّئ القضاء من تأجيل محاكمته، وإصدار الحكم في حقّه. التوقيف سيد الموقف في سجن النبطية، حيث يبلغ عدد الموقوفين أربعة وسبعين من أصل سبعة وتسعين سجيناً، بينهم ثلاثون أجنبياً. بعضهم لا يزال موقوفاً منذ سنوات بجرم القتل. أما المتهمون بجرائم المخدّرات، فلهم الحيز الأكبر من التوقيف. أحدهم وُجّهت إليه تهمة «دعوة صديقه إلى سيجارة حشيشة في سهرة رأس السنة». الدعوة كلّفته حتى اليوم ثلاث سنوات من التوقيف، حيث يُستدعى كل ثلاثة أشهر أحياناً للمثول أمام القاضي في النيابة العامة الاستئنافية في صيدا. سجين آخر (25 عاماً) كلفه توقيف السنوات الثلاث، ورفض طلبات إخلاء السبيل التي قدمها، عدم التخرج من قسم إدارة الأعمال في الجامعة، وكلّف والديه أكثر من ثلاثين ألف دولار أجرة محامين ومصاريف الطعام والحاجيات وتنقّلاتهم يومياً من صور إلى النبطية لزيارته. الشاب يبرّر بقاءه في السجن بأن لا وساطة لديه مثل زملائه الذين قبل القاضي طلبات إخلاء سبيلهم. أحد السجناء طالب بإنصاف ما بقي من بصر عينيه، اللتين أصابهما عمى شبه كامل بسبب إهمال إدارة سجن رومية علاجه، الذي وصفه له الطبيب المسؤول في مستشفى ضهر الباشق. ولمّا أضرب 26 يوماً عن الطعام احتجاجاً، لم يعالَج، بل نُقل إلى سجن النبطية قبل عام ونصف عام.
وحده أحمد (26 عاماً) تجده أكثر ارتياحاً وثقة من زملائه. يجول الشاب المتّهم بترويج المخدرات، كالزعيم بين السجناء، ليتبيّن أنه الشاويش الذي تُفرد له زنزانة خاصّة مستقلة، طُليت باللون الزهري، وقصاصات الجرائد، وجُهّزت بأشرطة الأغاني ...
مطالب بالجملة ملأت بها سارة أوراقها: خفض العقوبات والتعجيل في المحاكمات، وتحسين الرعاية الطبية وإجراء «نفضة» شاملة للقضاء والقضاة «الظالمين». لكنّ السجناء لم يأتوا على ذكر تحسين ظروف السجن وتأهيله، إما لأنهم قد يئسوا، أو لأنهم سمعوا بأن ورشة تأهيله سوف تبدأ في غضون أيام بتمويل جمعية إيطالية وإشرافها.
ويأمل الحراس والسجناء أن تزداد مساحة غرف الحرس، وعدد ومساحة الزنازين الثلاث المكدّسة في مساحة أقل من مئتي متر، فيما تفرد أمام السجن عشرات الأمتار كمواقف للسيارات. علماً بأنّ مبنى قوى الأمن الذي يشغل السجن طابقه تحت الأرض منذ عام 2005، لا تزال بعض طوابقه العليا فارغة.


من داخل الزنزانة

علي (22 عاماً) أصغر سجناء النبطية سناً، متهم بقتل والده، بالتعاون مع والدته وإخفاء الجثة على سطح المنزل. في مساحة المتر الواحد التي يحيا فيها منذ 23 شهراً، يتخبط الشاب الذي «أنهى حياته في ساعة شيطان بعدة رصاصات من سلاح كلاشينكوف». يحاول المكابرة على ندمه الذي يبرره «بإنهاء خمس سنوات من الظلم والاعتداء الجنسي عليه وعلى شقيقته من قبل الوالد». لكن تابع علي بالقول: «جنيت على أمي وشردت شقيقي المتأخر عقلياً وشقيقتي التي هربت ولا أعرف عنها شيئاً لأن لا أحد يزورني ويسأل عني».
يرجّح علي أن مصيره الحكم بالسجن المؤبد لكنه مؤمن بأن «باب الزنزانة لا بد من أن يفتح في يوم من الايام». عندها، قد يخرج علي «مجرماً شاملاً بعدما دخل مجرماً بالصدفة»، فيتعلم «احتراف جرائم اخرى كالسرقة وترويج وتعاطي المخدرات والقتل على أصوله من الزملاء، مستفيداً من وقت الفراغ الطويل جداً في غياب مختلف أنواع الانشطة والتدريب في السجن».