بحسب تحليلات الاقتصاديين، يمثّل النمو أفقاً لا بد منه، من دونه تختفي مجالات العمل، ويختفي الثراء. إلا أن النمو ليس مفهوماً متعارفاً على معناه. فبعض الباحثين والناشطين يرون فيه دمار البشرية بدل خلاصها
أيلا مانغي *
أمام الأزمات البيئية والاقتصادية، ترتفع الأصوات حول العالم أكثر فأكثر ضد النظرة الإنتاجية السائدة في المجتمعات التي تختصر الإنسان وتقلص دوره ليصبح مجرد «كائن اقتصادي». من هم هؤلاء الرافضون الجدد للنظام الاقتصادي العالمي الذين يطلق عليهم اسم «رافضي النمو» أو حتى «اللاتنمويين»؟
إنهم أولئك الذين يدعون إلى اعتناق أساليب حياة جديدة تكبح الجنون الاستهلاكي المعاصر، وإلى التشكيك بالقيم المادية التي أسّست عليها مجتمعاتنا، انطلاقاً من فرضية أن المصادر الطبيعية ليست لا متناهية. من هذا المنطلق، يجب العودة إلى نمط استهلاك عقلاني واعتناق قيم جديدة: تقليص الاستهلاك لعيش حياة أفضل. غير أنه لا يمكن اختزال «رفض النمو» بسلوك تمنّع إجباري في زمن الأزمات، فهو على النقيض تماماً، يعدّ بمثابة فلسفة حياة تعيد النظر جذرياً بالقيم المادية الرأسمالية: إيلاء الجماعة الأولوية على الفرد، اللقاء حول فنجان من القهوة بدل التواصل عبر شاشات الكمبيوتر، رفض عبادة السرعة وتقدير سحر البطء وجاذبيته، تقدير الثقافة الأدبية لا تلك المستمدة من الإعلانات.. إلخ...
باختصار: «سلعات أقل = روابط أكثر». ورغم أن «رافضي النمو» يحظون باهتمام خاص خلال فترات الأزمات الاقتصادية، إلا أن هذا لا يعني أنهم من المدافعين عن الانحسار الاقتصادي!
فهم يتوجهون بخطابهم إلى كل المفتونين بالأيديولوجيات المسيطرة التي تحفّز على تراكم الثروات، العملية التي تنتج عدم المساواة. على رأس تلك القائمة المخاطبة، الدول الغنية حيث تسيطر قيم الاستهلاك والإنتاجية. بحسب «رافضي النمو»، يجب عدم تحميل الشريحة الأكثر فقراً مسؤولية المصائب البيئية وبالتالي عرقلة نموّها، وفي هذا السياق، تمثّل دول الشمال بالنسبة لهم نموذجاً عما يجب تفاديه (يجب التفكير بذلك ملياً في لبنان!)
ما يجب استخلاصه، هو أن «رفض النمو» هو عملية تهتم بالحفاظ على البيئة، لكنها مأخوذة أيضاً برغبة في العدالة الاجتماعية بين البشر. فمن الضروري وضع حد لعدم التوازن بين الشمال والجنوب، عبر دفع الغرب إلى التساؤل عن تطوره الخاص وإلى إعادة النظر في ممارساته. وعلى وجه الخصوص، يعارض «رافضو النمو» مفهوم التنمية المستدامة جذرياً. ففي الواقع، لا تسائل التنمية المستدامة دعاة النمو، بل تكتفي بإلباس دعوتهم زياً أخضرَ يجعلها أكثر جاذبية. في هذا السياق، تصبح التنمية المستدامة نفاق الرأسمالية الخضراء التي تبحث من خلالها لإضفاء الضمير الصالح على نفسها (مثالاً على ذلك السيارات المهجنة صديقة البيئة).
طبعاً، يعتبر البعض «رافضي النمو» مثاليين غير مسؤولين. إلا أن هناك بعض السلوكيات اليومية الصغيرة التي تسمح بالانتقال من النظرية إلى الممارسة: تقليص التحرك بالسيارات، تأمين التدفئة من دون مبالغة، التخلص من الهاتف الخلوي «المقدّس»، قراءة الشعر بدل الشخوص إلى شاشة التلفزيون لساعات... أو أيضاً التذكر أنه منذ زمن ليس ببعيد، لم يكن من المستهجن الاحتفاظ بالسلعة ذاتها لوقت طويل، من دون أن يهمّش المجتمع الشخص الذي يقوم بذلك!
يبقى أن نبحث عن طريقة ترجمة هذه الحركة على مستوى سياسي. طبعاً لن تفيد تلك النظرية الحركات السياسية التي تدافع عن النمو بأي ثمن، أكانت زرقاء باسم الرأسمالية، أم حمراء باسم فرص العمل، أم حتى خضراء باسم البيئة. في فرنسا، يمثّل محازبو حركة «أوروبا، بيئة» أو مداحو البيئة مثل نيكولا هولو أو آل غور في الولايات المتحدة الهدف الأحب على قلوب «رافضي النمو» الذين يطلقون عليهم اسم «المنافقين البيئيين».
وللأسف، فقد تلقفت الدائرة السياسية الإعلامية مفهوم «رفض النمو»، ما أضلّ بمبادئه المؤسسة، بينما لا تزال فكرة «رفض النمو» بعيدة عن تداول الأحزاب السياسية التقليدية، لا سيما البيئية منها، لتظل حتى الآن مجرد نظرية، يحمل لواءها منظّرون تزداد شهرتهم يوماً بعد يوم مثل سيرج لاتوش أو بول أرييس.
يكمن رهان «رافضي النمو» اليوم في تحويل فكرتهم إلى عمل سياسي إيجابي، وهي عملية لن تجري من دون عوائق ومشاكل كثيرة لأن ثمة توجساً (ولو كان صامتاً) يكتنف هذه الحركة تجاه الديموقراطية، ولا سيما تجاه كل أشكال ما يسمى بالديموقراطيات المشاركة التي احتوتها السلطة في المؤسسة.
في مجمل الأحوال، تمثّل هذه النظرة مصدر أمل كبيراً: فسوف نشهد، كما لم نفعل سابقاً، ولادة حركة سياسية تربط بين القيم ذات النزعة الإنسانية ومفهوم العدالة الاجتماعية وبين الدفاع عن البيئة.
* باحثة فرنسية