عدد كبير من كنائس لبنان يعود إلى فترة القرون الوسطى، التي شهدت الحروب الصليبية واختلاط مسيحيّي الشرق بمسيحيّي الغرب. دراسة تاريخية وفنية لهندسة تلك الكنائس والجداريات التي تزينها بدأت تُبرز طرق اختلاط هاتين الثقافتين وتداخلهما
جوان فرشخ بجالي
أن يكون لكنائس لبنان القديمة طابع هندسي وفني خاص بها ليس أمراً مستغرباً، فتلك الأبنية ترمز إلى ثقافة أجيال عاشت في هذه الفترة وحضارتها. ولكن أن تحمل تلك الكنائس في حجارتها ورسومها أسرار تداخل حضارات الشرق بالغرب فهو أمر جديد على عالم الدراسات التاريخية. «اكتشافات حديثة لجدرانيات القرون الوسطى في لبنان» هو عنوان المحاضرة التي قدمتها المؤرخة راي جبر معوّض في متحف الجامعة الأميركية في بيروت نهار الأربعاء الماضي. الاكتشافات الحديثة التي تكلمت عنها معوض لم تقتصر على الرسوم التي برزت للعيان بعد عمليات الترميم، التي أنجزت، بل امتدت لتشرح منهجية تاريخية في دراسة ذلك الفن. فالباحثون يرون فيه اليوم وجهاً من «الامتزاج والاختلاط بين مسيحيي الشرق والغرب»، كما تؤكّد معوض.
ترتكز المؤرخة في استنتاجها على دراسات أتمّتها لجداريات اكتُشفت خلال السنين الماضية في دير مار سركيس وباخوس في كفتون، والتي رُمّمت على يد فريق بولوني. وتشرح معوض أن «تلك اللوحات فريدة من نوعها في لبنان، من ناحية جمالية الصور ودقّة تنفيذها. فوجوه الرسل والقديسين والسيد المسيح في غاية الجمال، وتبدو كأنها ستنطق، وأطراف ثيابهم قد زيّنت بخط أبيض رفيع، ما يعطيها خفّة، فتبدو كأنها تتحرك حقاً. وهذا الأسلوب في الرسم غير معتمد في جداريات القرون الوسطى في الكنائس اللبنانية، فتلك تتميز برسوم ذات خطوط عريضة ووجوه جاحظة... إنه فن بسيط ينجزه أهالي المناطق النائية، فيما رسوم كفتون تشبه تلك التي تزين كبرى الكنائس في مدن الإمبرطورية. هذا إضافةً إلى أن المواضيع التي اختيرت لتزيّن الجدران لم تكن معروفة في لبنان في تلك الفترة. وتشرح معوض أن هناك لوحة تُظهر المسيح وهو يناول تلاميذه الخبز، وهي الأولى من نوعها في لبنان. وفي لوحة أخرى تصوّر قديساً مجهولاً في لبنان معروفاً في إيطاليا وهو مار لوران. وتقول معوض إن تحديد «هوية» القديس جرى بعد قراءة الكتابة قرب وجهه. ولوران هو شفيع مدينة جنوى، وقد شيّدت على اسمه هناك كاتدرائية كبيرة. وتقول معوض إن اكتشاف صورة هذا القديس في كفتون، التي كانت تتبع مدينة جبيل المحكومة في الفترة الصليبية من عائلة الامبرياتشي المنحدرة من مدينة جنوى، إنما يُبرز العلاقات القوية بين أوروبا والمناطق الصليبية. وتؤكّد معوض أن والي طرابلس كان قد «وهب» بطريرك جنوى عدداً من الأراضي في منطقة طرابلس، وقد كتبت الصكوك الملكية لكنيسة مار لوران في جنوى. وهذا ما يشرح رسم هذا القديس على جدار الكنيسة».  
اختلاط الغرب بالشرق لا يتوقف على الرسوم في كفتون، بل يتعداها ليصل إلى اللغات المستعملة في الكتابات. فهذه هي الكنيسة الوحيدة في الشرق الأوسط التي زيّنت جدرانها بكتابات بثلاث لغات: العربية، اليونانية والسريانية.

أمير ألماني في بلاد جبيل

كشف علاقات مسيحيّي الغرب بالشرق عبر الجداريات لم يتوقف على كفتون، بل شمل أيضاً كنيسة مار شربل في معاد. فجدران الغرفة الملاصقة للكنيسة زُيّنت بجدارية تعدّ من الأجمل والأكبر في لبنان، فعلى واجهتها الشمالية صورة لرقاد العذراء، فيما الحائط الجنوبي مزيّن برسوم لقديسين وأشخاص لم تحدّد هويّاتهم حتى اليوم. ولكن الدكتورة معوض استعانت بالتاريخ لكشف هوية القديسين والأشخاص، فقرأت نصاً كتبه كاهن القرية في القرن التاسع عشر عن تاريخ الكنيسة. النص السرياني يخبر قصة استشهاد مار شربل (الذي سمّيت الكنيسة على اسمه) في مدينة الرها في القرن السادس ميلادي، والمعروف أنه خلال عملية قطع رأسه أتت شقيقته، وتدعى باباي، لتلتقط دماءه بمعطفها. مبادرتها تلك حوّلتها عند المؤمنين شريكة في الاستشهاد، فبات الاثنان يصوّران معاً على جدران الكنائس. ما يشرح الرسوم على جدار الغرفة. أما بالنسبة إلى الشخص الذي صوّر قرب القديسين في أسفل صورة رقاد العذراء، فتكشف معوض أن النص السرياني يقول إنه «أمير من بلاد جرمانيا وصل إلى بلاد جبيل في القرن الثالث عشر (أي خلال حملة الملك فريديك الثاني إلى القدس) وسكن مع عائلته في قرية معاد. وكان للأمير ابنة وحيدة توفيت من التهاب في الرئة، ودُفنت قرب الكنيسة، فموّل والدها الجداريات التي تزيّن تلك الغرفة، وصوّره الفنانون على الجدران كونه واهب الأموال. وهذا تقليد غربي بامتياز. واستطاعت معوض خلال ترجمتها النص السرياني أن تحدّد اسم الأمير «كابانس»، وابنته هي «حنة».
اكتشاف النص وترجمته وربطه بالجداريات تعدّ إنجازاً تاريخياً، إذ إنّه يُبرز اختلاط الصليبيين بالسكان المحليين من جهة، ويشرح كيفية مساهمتهم في الطقوس الدينية من جهة ثانية. الدراسات عن أهمية هذه الجدرايات لا تزال في بداياتها، وكنائس لبنان لا تزال تخبّئ أسرارها في جدرانها.