أنسي الحاجهندسة
يقال إنّ المرأة لا تعرف تأثير جسدها على الرجل. إذا تغزَّل بفخذيها تحسب ذلك إطراءً لجمالها أكثر منه وقوعاً في الإثارة.
والمرأة في جهلها هذا محقّة، فليس اللحم ما يثير، بل كيفيّة ظهوره. والأهمّ هو الموقف الذي يُستشَفُّ وراء أيّة حركة. شخصيّاً أعتبر مشهد النساء بالمايوهات على الشاطئ ممّا يدعو إلى التقزّز. شكل المايوه أشبه بالكيس، وفوق كونه يلغي الظلال، وهي عاملٌ جوهريّ في تنبيه الحواس، نراه لا يرحم أيّاً من نواقص المرأة ويحبط التخيُّل، إلا في حالات نادرة كالحرمان الهائل عند الرجل أو الفتنة الخارقة في شكل المرأة، ولنسمّها الفتنة العابرة للأزياء. كلّ ما يحبط الخيال هو إجرام، وأوّل المجرمين الواقع. صناعة الجمال، وأعظمها الفنون، هي أمضى سلاح اخترعه الإنسان في صراعه مع القَدَر. والجمال جهد فوق الطبيعة وليس استسلاماً للطبيعة.
ولا بدّ من الإشارة إلى عامل سلبي آخر يرتبط بما قلناه عن إيحاء الكيس، وهو أن هذا الإيحاء لا يقتصر على تشويه أشكال الجسد في الحاضر، بل ينال منه على صعيد الذاكرة، إذ يردّ الناظر، بوعيه أو لاوعيه، إلى مرحلة الطفولة، وهموم نظافة الطفل و«حفظه». وكلّ ما يَردُّ إلى الطفولة يشدُّ إلى الطور السابق للجنس، إلى براءةٍ لا تدرك نفسها، براءة هلاميّة وما قبل الملائكيّة، في جسد لا يليق بها ولا تليق به، يبدو معها مضحكاً، فيه شيء من المسخ، وتبدو معه رأساً بلا جسد أو جسداً بلا رأس.
لا نقترح استلقاءً عارياً محلّ هذا الزيّ، فليس العري بأكثر من بَرْق سرعان ما يحتاج إلى النجدة ـــــ بل نقترح أنماطاً من الرداء تُعيد إلى المخيّلة حقوقها فتشبعها بالنظر إشباعاً يؤجّج الظمأ.
وحبّذا لو تختار الراغبات في التمسّك بأزياء البحر الحاليّة، حبّذا لو يخترن الشواطئ المخصصة للنساء، فلا تنجرح إلا عيونهنّ بعضهنّ على بعض.
■ ■ ■
الذي اخترع الفستان أهمّ من الذي هَنْدَس البيوت والمعابد. الأخير استهدف الأمان وإيحاء الرهبة والسلطة، أمّا الأول فقد أخرج البئر من عمقها وألبسها السراب.
توجب الأنوثة على المرأة تصرّفات صارمة وأحياناً قاسية، لكنّها لازمة في دورة التوازن. تستطيع المرأة أن ترتاح في حركاتها ومع جسدها حين لا يكون نظرُ رجلٍ موجّهاً إليها. نظرُ الرجل يوجدها في ظروفٍ يغدو معها ظهورها أولى من حقوقها. ما يبدو تعسّفاً في هذا الكلام هو حقّاً تعسُّف، ولكنّه قد يصير أقلّ إيلاماً حين نفرض مثله على الرجل. آداب الظهور والتصرّف تحكم الجنسين. إذا شدّدنا على المرأة فليس فقط لأن الناظر الآن رجل، بل لأن الظهور الأنثوي أعظم أثراً في الذَّكَر من الظهور الذَّكَريّ في الأنثى. لماذا؟ مرّة أخرى لأنّ السحر الأنثوي يتحكّم في فحولة الرجل أكثر ممّا يتحكّم السحرُ الذكريّ في أنثويّة المرأة على الصعيد البيولوجي البحت. متى سلّمنا بهذه البديهة تضاءل الشعور بالظلم العنصري. هذه هي الطبيعة، والتقاليد والعادات والأزياء والآداب تفرّعت من الطبيعة وليس العكس. لم يُخلق الرجل والمرأة عاريين، بل خُلقا أعميين، وعندما أبصرا سارعا إلى الرداء، لا ستراً لعورة بل خدمةً لمصادر الشوق.


تحت الأرض
يظهر التجلّي مباشرةً كما يظهر من وراء الستار. النهضات بأبطالها المعلنين وكذلك بملهميها المحتجبين. أحياناً يحتاج الأمر إمّا إلى الإخفاء وإمّا إلى الاختفاء، ليس فقط من باب تخفيف الوطأة، بل كوقاية من الابتذال.
قليلاً ما هو معروف حجم تأثير رجال الظلّ في الحركات السياسيّة، نشوءاً ونموّاً، أو انحداراً وانحرافاً وانكساراً. مشهور ميشال عفلق وليس مشهوراً زكي الأرسوزي. وأنطون سعاده لا أبوه خليل. لا أحد يتحدث عن أدوار الذين لم يسلّطوا على أنفسهم الأضواء.
أصحاب الاتجاهات الشيوعيّة الأولى في العالم العربي أصبحوا نسياً منسيّاً هم وكتاباتهم والفوارق بين فهمهم للشيوعيّة وفهم اللاحقين. كذلك القوميّون العرب وأخصامهم دُعاة الانكفاء والانعزال ومفلسفو الكيانات الصغيرة. «النجوم» يصادرون الواجهات، بعضهم عن حقّ ومعظمهم عن دكتاتوريّة. الفكر يُزرع في العزلة والزعماء و«الحركيّون» يحصدون على العروش. في الغرب تظلّ مكانة ماركس في معادلتها ولا تسطو عليها سلطويّة لينين ولا تألّه ستالين، لكنّه الغرب، ونحن في الشرق، لا في «حيّللا» شرق بل في الشرق العربي، حيث يُنسى الزارعون الحقيقيّون قبل أن يموتوا، فيحصد زعماء السلاح وقبضايات الطوائف وعشّاق الوجاهة ومحترفو سرقة أتعاب الآخرين، يحصدون الغلّة وتفترس انتهازيّتهم كلّ شيء.
لا للتحسّر بل على الضدّ، لندعو الضجّاجين إلى الخَفَر ولنشجّع على العمل الظلّي، وبالأخصّ في الفكر والأدب. الخسوف موصوف عند احتدام الاستعراضيّة.
ليست شهوة الشهرة عيباً أو الأحرى هي عيبٌ مُستحَبّ وقد يؤدي إشباعه إلى نتائج مفاجئة. العيب هو الخلط بين الشهرة والأهميّة، وفي مقايضة الجهد والجديّة بعبادة الإعلام. طبيعي أن يحتاج المؤلّف إلى تقدير الآخر، المؤسف أن ينتقل من البحث عن هذا الآخر في المعلّم والناقد والزميل إلى البحث عنه في الدعاية والثرثرة. وبما أن صدّ الإسفاف الإعلامي مستحيل في طوفان العولمة أصبح أحد المخارج هو الاختباء تحت الأرض.
لا حاجة إلى القول إنها نصيحة لمَن يستطيع، والذين لا يستطيعون الإقامة تحت الأرض معذورون وبعضهم مشكور، فالمناخ الاختفائي ليس صحيّاً لكل الأطباع، وتبقى الشمس أكثر نفعاً من الظلّ.
هذه الكلمة مكتوبة من وحي صدرٍ شلّعه جنون المناخ. ولا تطمح أن تلاقي صدى استحسان عند أكثر من شخصين ثلاثة باتوا هم أيضاً خارج المدار. المعذرة من الآخرين.


«لن بين المطرقة والسندان»
«... الطفل الذي ينضج ولا يكبر، في كنف نفسيّة مختنقة مأزومة، تنغلق آفاقها إن لم يكن في الحقيقة فبالتصوّر والوهم والتكرّر، وينتهي به كلّ ذلك إلى: الانكسار».
بهذا تختم رانة نزال كتابها «لن بين المطرقة والسندان» (دار الفكر اللبناني) وهو في الأصل دراسة أكاديميّة عملت عليها في عمّان، وشملت كتاباتي من «لن» حتى «خواتم».
بصرف النظر عن استثقال القارئ لمَن يكتب حول ما كُتب عنه، عندما أرى دراسة عنّي يتقاسمني شعوران: الخوف والرهبة. بالأخص حين تصدر الدراسة في كتاب. الخوف لأن كتاباً عن الكاتب في حياته تقريب له من المتحف، والرهبة لأن الكتاب الذي يَفْتَح عليك هو نفسه ينغلق عليك، والحكْم الذي يُساق خلاله يبدو أشدّ وقعاً من حكْم المقال أو المحاضرة. الحبر في الكتاب دائم.
أحببتُ «الطفل الذي ينضج ولا يكبر» كما أتبنّى وصف الانكسار. لقد تعدَّدت أشكال التنكُّر وتكاثرت أصوات التمويه فوق الدرب المعتم، لكنّ الانكسار، مثل القمر، لا يمكن إخفاؤه. كلّ ما يمكن، في الوقت المتاح، هو تمديد أَجَل الملهاة.
■ ■ ■
في موضع آخر من الدراسة تقول الآنسة نزال إن الروائح هي الأقلّ وجوداً في شعري، مقارنة بالأصوات والألوان. صحيح، لكن السبب ليس ما قد يتبادر إلى الذهن من طغيان الحواس الأخرى على حاسّة الشمّ، بل العكس. وإلى حدّ مَرَضيّ مبتدئ من الطفولة. حتّى لفظة رائحة أتجنّبها ما استطعت لأنّها تحمل معها تلقائيّاً مخزونها ممّا هبَّ ودبّ. وخاصةً حين تُستعمل بالدارج، «ريحة»، كما في أغنية لأحد المطربين الكبار، وقد حَرَّمتني سماعها. لفظة «عطر» نفسها ليست بمأمن. فإذا قلتَ العطر دخلتَ مملكة الشمّ، ممّا لا بدّ أن يستحضر أنواعاً أخرى من الروائح، فلمَ فَتْحُ الباب؟ حاسّة الشمّ عندي أوّل ما يحضر وآخر ما يغيب، وأستطيع القول دون مبالغة إنّها لا تغيب.
عندما أتخيّل امرأةً يملأني على الفور عطرٌ فتّان، عطرُ ما أتمنّاه، وقد لا تكون هي فوّاحة به ولكنّها يجب أن تكون، ولا خيار لها، وإلا انقلبتْ عدوّاً ولم يعد ينطبق عليها وصف امرأة. المرأة المكتوب عنها هي دوماً قبلة الأحلام، الأنثى الشهيّة الغضّة، الطالعة من المغطس أو من الموج. لم يتخيّل الشعر المرأة وردة لأنّها وردة، بل لأنّها يجب أن تكون كذلك. هكذا رآها الشوق وعينا الحاجة. والشوق سيّد الوجود، ونظرُ الحاجةِ أكثر إبداعاً من العبقريّة.