جوناس ستوراب ليس عاطلاً من العمل في كوبنهاغن، لكنه أحبّ أن يوصل بريد سفارة بلاده فوق دراجة هوائية لمدة أسبوع، سيثير ستوراب فضول الكثيرين، لكن الهدف ليس «الفرجة» بل «تحريك الدم» والتحفيز على تبنّي هذه الثقافة الخضراء في التنقل إلى الجامعة والعمل والتنزّه، بعدما أصبح مدينتنا علبة سردين تفوح منها رائحة العوادم
بسام القنطار
لا يكفي أن يمرّ شاب على دراجة هوائية في شوارع الحمرا لتكون أقل ازدحاماً. لكن جوناس ستوراب (٢٣ عاماً) الآتي من كوبنهاغن إلى بيروت، يريد أن يوصل رسالة مفادها أنه يمكن اللبنانيين أن يعتمدوا على الدراجات الهوائية في أثناء تنقّلهم داخل المدن التي تزداد ازدحاماً يوماً بعد يوم.
المبادرة من تنظيم السفارة الدانمركية في لبنان، وتعمل السفارة على نشر ثقافة الطاقة البديلة والمتجددة التي باتت الدانمرك نموذجاً رائداً لها على مستوى العالم.
يمثّل استخدام الدراجة الهوائية جزءاً من الثقافة الدنماركية منذ بداية القرن الماضي. بحسب السفير الدنماركي في لبنان، يان توب كريستنسن، الذي كان حاضراً أمس إلى جانب ستوراب في مقهى «تايستي» في شارع جان دارك، لإطلاق المبادرة الخضراء التي ستستمر سبعة أيام، إذ سيسلّم الشاب الدنماركي بريد السفارة إلى مختلف الوزارات والشركات اللبنانية عن طريق الدراجة الهوائية، مرتدياً بزّته الخضراء الرسمية وحاملاً جعبة تتسع نحو ٣٠ كيلوغراماً.
تعطي الدراجة الهوائية الشعب الدنماركي قدرة على الحركة بحرية وبكلفة أقل من أي وسيلة تنقّل أخرى، بما فيها وسائل النقل العمومية كالحافلات والمترو والقطار الموجودة بكثرة في هذا البلد.
ويشير كريستنسن إلى أن السيارات لم تكن متوافرة بكثرة في الدانمرك مع بداية القرن العشرين، ما جعل الدراجات الهوائية مثالية للتنقل الشخصي ولنقل البضائع والبريد أيضاً، ولقد احتلت الدراجات الهوائية شوارع المدن الدانمركية من عام ١٩٢٠ لغاية عام ١٩٥٠، وخصوصاً خلال فترة الحرب العالمية الثانية عندما كان هناك نقص فادح في الفيول. بعدها شهدت الدنمارك نهضة عمرانية ترافقت مع تراجع اقتناء الدراجات الهوائية، إلى أن عادت إلى الظهور مجدداً في السبعينيات، وتزامن ذلك مع بداية تأسيس الحركات الشبابية الثورية التي كانت تنظّم تظاهرات ضخمة على الدراجات. ومنذ عام ٢٠٠٠ يشارك عدد كبير من الدنماركيين في حملات «يوم عمل على الدراجة» التي تنظّم في مختلف أنحاء البلاد، وحالياً تحتل الدراجات في مدينة كوبنهاغن وحدها ٣٠٪ من نسبة وسائل النقل في المدينة.
تستخدم الدراجات الهوائية، إضافة إلى التنقل الشخصي، في العمل وخصوصاً في خدمات البريد، حيث تشاهد الدراجات وهي توصل البريد بين المنازل والمكاتب يومياً. ويساعد استخدام الدراجة على التنقل بسهولة في الأحياء السكنية، كما أن العاملين في خدمة رعاية المسنّين داخل منازلهم يستخدمون الدراجات بكثرة، وكذلك العاملين في خدمة التوصيل من المطاعم، إضافة إلى استخدامها كتاكسي للسياح الذين يزورون الأماكن الأثرية في أنحاء متفرقة من المدينة. ويمكن السائح أن يستأجر الدراجة الهوائية التي تزدان بالإعلانات. ولقد عمّم هذا النموذج في مختلف العواصم الأوروبية بعد نجاحه الاستثنائي في الدنمارك، بحسب كريستنسن.
يعمل ستوراب ساعي بريد في شركة «برنيغ اكسبارس» الدنماركية، ولقد عرفت هذه الشركة في البداية باسم «غرين دليفري»، ثم تطوّرت لتشمل خدماتها مختلف الدول الاسكندينافية.
يشير ستوراب إلى أن الشركة أسسها عام ١٩٨٩ سبعة من الشباب الجامعيين، وخلال أول يوم عمل استقبلت ٢١ طلباً من الزبائن، وتطوّر عمل الشركة لاحقاً ليصل إلى ١٢٠ موظفاً عام ٢٠٠٠ ويقوم هذا الفريق بـ ٢٥٠٠ توصيلة يومياً، ويقطع مسافة تقدر بين ٨٠ إلى ١٠٠ كيلومتر، وتقدر مسافة الرحلات التي تقوم بها الشركة على مدار العام بحوالى ٦٢ مرة دوران حول الكرة الأرضية.
يلفت ستوراب في حديث إلى «الأخبار» إلى أن حجم الأعمال تراجع مع الظهور الكثيف للبريد الإلكتروني، لكن الشركة لا تزال تمثّل نموذجاً يحتذى لإيصال الخدمات بسرعة قياسية، وبدون تلويث الجو بانبعاثات ثاني أوكسيد الكربون. ويشير إلى أنه رغم تغيير اسم الشركة وتوسعها في العديد من الدول الأوروبية، فالذي يميّزها هو الزيّ الأخضر الذي يرتديه العاملون في الشركة.

تحتل الدراجات في مدينة كوبنهاغن وحدها ٣٠٪ من نسبة وسائل النقل
يتهيّب ستوراب للتجربة التي سيعيشها في أثناء القيادة في شوارع بيروت المزدحمة، لكنه سبق له أن عمل لفترة مماثلة في القاهرة التي تمتاز بأزمة سير خانقة وكثافة سكانية قياسية. يعرف ستوراب أن شوارع بيروت ليست كلها مسطّحة كما هي الحال في كوبنهاغن. لذلك، أحضر دراجته الجبلية التي تمتاز بقدرة على التكيّف مع الهضاب المرتفعة، وبناقل حركة مرن يساعده على السير بسرعة وبدون جهد إضافي كبير. يضحك ستوراب لدى سؤاله عن ردود الفعل التي سيتلقّاها من المارين، فالعادة في الدانمرك أن يستخدم سائق الدراجة الهوائية يديه للإشارة إلى اتجاه اليمين أو اليسار، ويرفع يده إلى فوق رأسه للإشارة إلى التوقف. «أعرف أن هذا الأمر غريب على اللبنانيين، لكن من المفيد أن يتعرّفوا على أن هذه الإشارات اليدوية هي التي تستخدم في جميع دول العالم، وحتى سائق الدراجة النارية يستخدمها في أثناء القيادة.
بدوره، السفير الدنماركي في لبنان كريستنسن، يرى أن هذه المبادرة تهدف إلى إيصال رسالة واضحة إلى اللبنانيين بأنهم يمكنهم استخدام هذه الوسيلة الخضراء في التنقل، وهي إضافة إلى كونها غير ملوّثة فإنها اقتصادية، ولا تخضع للإجراءات المفروضة على سائقي الدراجات النارية، الذين نراهم بالعشرات في شوارع بيروت، رغم ملاحقة الشرطة لهم باستمرار.
لم يتعب كريستنسن من رحلاته المتكررة لإقناع الحكومة اللبنانية بضرورة إطلاق خطط طويلة الأمد للتحوّل تدريجاً إلى استخدام الطاقة البديلة والمتجددة، وخصوصاً أن لبنان يواجه تحديات مثيرة للاهتمام لتحسين إنتاج الكهرباء، ولديه إمكانات غير مستغلّة، لذلك من المفيد أن تكون هناك خطة للاعتماد على الطاقة المتجدّدة. ويرى كريستنسن أن التعهد الذي قدمه الرئيس سعد الحريري خلال قمة المناخ في كوبنهاغن لجهة رفع الطاقة البديلة في لبنان إلى نسبة ١٢٪ من إجمالي استخدام الطاقة في عام ٢٠٢٠، هو أمر غاية في الأهمية، وخصوصاً أن الطاقة الشمسية خيار واضح في بلد مثل لبنان، يتمتع بـ 300 يوم مشمس سنوياً. وطاقة الرياح ينبغي أن يُنظر إليها بجدية، ونحن لا نزال ننتظر إطلاق أطلس الرياح الذي نعلم أنه موجود، ولا تحتاج الحكومة إلى دراسة جديدة، فمنطقة الشمال تتمتع بطاقة رياح كبيرة، والمطلوب تحفيز الاستثمار في هذه المنطقة» بحسب كريستنسن.