أُوقفت عاملة أثيوبية نحو 15 شهرا في قضية موت طفلها الحديث الولادة، وبعدً مدة التوقيف تبيّن أن السيدة بريئة. هذه القضية تسلّط الضوء على التوقيفات التي تستمر لفترة طويلة، ويتبيّن في بعض الملفّات أن المتهمين الموقوفين أبرياء
محمد نزال
قبل نحو سنة ونصف، وصلت مارتا لازا (24 عاماً) إلى لبنان. تركت وطنها أثيوبيا بحثاً عن عمل، فوجدت نفسها في مكتب استقدام عاملات أجنبيات في بيروت. أجريت لها ـــــ ككل العاملات الأجنبيات ـــــ الفحوص الطبية اللازمة، للتأكد من خلوّ جسدها الضعيف من الأمراض المعدية، لكن من دون أن يُجرى لها فحص حمل. وقع الاختيار على مارتا من قبل اللبنانية عبيدة ب. لتعمل لديها في تدبير شؤون المنزل. بعد نحو شهرين ونصف من العمل، لمحت سيدة المنزل العاملة مارتا في أثناء خروجها من الحمام، واضعة يدها على بطنها، كما رأت بقعاً من الدماء في المطبخ «حيث تنام الخادمة عادة». دفعها الفضول إلى البحث أكثر، فذُهلت عندما شاهدت بقايا حبل خلاص في سلّة المهملات.
استدعت عُبيدة صهرها وابنتها، وجرى نقل مارتا إلى المستشفى. استقرت حالتها الصحية، بعدما أجريت لها عملية «كورتاج». عادت عبيدة إلى منزلها، وبدأت تبحث في أغراض العاملة. رفعت فرشة نومها، وإذا بها ترى طفلاً حديث الولادة ميتاً. بدأت القوى الأمنية التحقيق لكشف الملابسات. اعترفت مارتا بأنها متزوجة ولها ولد في أثيوبيا، وأنها حضرت إلى لبنان وهي حامل. وعلى قاعدة «لم يجبرني على المرّ إلا الأمرّ منه» أخفت أمر حملها بسبب حاجتها إلى العمل. أوقفت القوى الأمنية مارتا واستمرت في التحقيق معها. ومما جاء في إفادتها، أن الولادة كانت طبيعية، لكنها تعثّرت، فخرج الجنين ميتاً. «تخلصت من الجنين بسرعة، بسبب الخوف وعدم معرفتي بما سيحصل معي. وضعت الطفل بدايةً في الحمام، ثم وضعته تحت التخت» هكذا روت مارتا قصتها.
اتخذت عبيدة صفة الادّعاء الشخصي على مارتا، وجاء في إفادتها أنها كانت قد طلبت من مكتب استقدام العاملات إخضاعها لفحص الحمل، وقد «أخبرتني السكرتيرة هناك بأن نتيجة الفحص جاءت سلبية».
استفادت المحكمة من تقرير الطبيب الشرعي الذي أكد أن الطفل كان مكتملاً عند الولادة، لكن الهواء لم يدخل إلى رئتيه الصغيرتين. وفي المحاكمة العلنية، ذكرت مارتا أن العادة الشهرية كانت تردها كل 15 يوماً، وكانت عبيدة تزوّدها بالفوط الصحية اللازمة، ما دفعها إلى الاعتقاد بأنها ليست حاملاً.
من جهته، لفت الطبيب الشرعي إلى أن النزف لمدة طويلة يؤثر على صحة الجنين، ويؤدي أحياناً إلى وفاته، موضحاً سبب عدم بكاء الطفل عند خروجه، بعدم دخول الهواء إلى رئتيه.
ترافعت وكيلة عبيدة، مكررة شكوى موكلتها لناحية «الضرر المعنوي والصحي الذي أصابها». في المقابل، ترافع محام مكلف من قبل نقابة المحامين في بيروت، عن مارتا، فتطرق إلى الظروف الاجتماعية الصعبة لموكلته في بلادها، وإلى النزف الذي أصابها قبل الولادة، طالباً إعلان براءتها.
بعد نحو سنة و3 أشهر من «التوقيف الاحتياطي»، أصدرت محكمة الجنايات في بيروت برئاسة القاضية هيلانة اسكندر، وعضوية المستشارين وليد القاضي وهاني الحجّار، حكماً ببراءة مارتا من جناية المادة 549 عقوبات «لعدم كفاية الدليل»، وبإطلاق سراحها فوراً، لأن المحكمة «لا يمكنها أن تبني حكمها إلا على الجزم واليقين».

الولادة كانت طبيعية، لكنها تعثّرت فخرج الجنين ميتاً

تعيد قصة مارتا، الأثيوبية، قضية التوقيف الاحتياطي، وعدالته، إلى الواجهة. فمن يستطع أن يعوّض على موقوف بقي حبيس القضبان سنة أو سنتين أو أكثر، ثم ظهرت براءته بعد ذلك؟
أحد القضاة رأى أن المشكلة ليست في محكمة دون أخرى، بل هي مشكلة عامة تشمل الجسم القضائي ككل، حيث تلقى على بعض القضاة مسؤولية بتّ عدد كبير من الدعاوى. أما في ما خصّ حالة مارتا، فرأى القاضي في حديث مع «الأخبار» أن الحكم ببراءتها بعد سنة و3 أشهر من توقيفها «لا يعدّ ظلماً لها، لأنها تتحمل مسؤولية فعلها، وخاصة أن حملها لم يكن الأول، وهي تعرف بالتالي علامات الحمل وآثاره، ويمكن أن تكون المحكمة قد أرادت إنصافها وعدم تجريمها بقتل طفلها، وهو ما يحتم سجنها لسنوات طويلة، ولذلك اكتفت بهذه المدة من التوقيف كعقوبة لها». يضيف أن أسباباً تقنية قد تؤدي أحياناً إلى تأخر صدور الحكم. وهذا ما حصل في قضية مارتا. إذ ظهرت فروق بين تقرير الطبيب الشرعي الذي عاين مارتا بداية، وتقرير خبراء في الطب الشرعي كلفتهم المحكمة بوضع تقرير مفصل.
رأى المحامي والخبير القانوني ماجد فياض، أن التعديلات المقرّة على القانون بشأن التوقيف الاحتياطي عام 2001 «لا تستوفي رغبة الحقوقيين الذين طالبوا بتعديل القانون، ولا تزال تحفل بشوائب تجعله دون مستوى معايير المحاكمة العادلة التي أقرّتها مواثيق الأمم المتحدة، وصكوك لجنة مراعاة حق الدفاع، لناحية تفسير مدة التوقيف إلى أقصى الحدود، والاستعاضة عنها بالكفالات المالية بدل احتجاز حريات الإنسان وتقييدها».


«لولو السويعاتية»

«ياما في السجن مظاليم»، عبارة شعبية تتردد على ألسنة الكثير من الناس. العبارة ليست من نسج الخيال، بل تستند إلى قصص مظالم ومعاناة عاشها كثيرون خلف القضبان ليتبيّن لاحقاً أنهم أبرياء من التهم الموجهة إليهم. تحدثت روايات وأفلام ومسرحيات عن «سجن المظلوم». قصة مارتا الأثيوبية تذكّر بمسرحية فيروز وشخصية «لولو السويعاتية» التي عرضت في بيروت عام 1974. حُكم على لولو بالسجن لمدّة 15 عاماً، بتهمة قتل رجل اسمه يونس. وقبل شهر واحد من انتهاء عقوبة السجن، تبيّن أن المتهمة بريئة. خرجت من السجن، وعادت لولو إلى بلدتها، والتقت بجرجي (نصري شمس الدين) ملمّع الأحذية، وروت له قصتها. أشاع جرجي خبر خروجها من السجن في البلدة، وأنها تريد أن تنتقم من أهل البلدة بقتل واحد منهم.


لقطة

يتحدث حقوقيون عن نقص في عدد القضاة العاملين في لبنان، قياساً بحجم الدعاوى والقضايا التي تصل إليهم يومياً في جميع المحافظات. هذا الأمر، فضلاً عن البيروقراطية المعتمدة، يؤدي إلى تأخير في المحاكمات، وفي إصدار الأحكام، فيدفع الموقوف ثمن ذلك. في هذا الإطار، أشار وزير العدل إبراهيم نجّار في الخلوة القضائية التي عقدت قبل نحو شهر، إلى أن خطة «الإصلاح القضائي» تشمل رفع عدد القضاة من 500 إلى 700، بل إلى 900 قاضٍ. وكان نجّار قد أكّد لـ«الأخبار» أن الخلوات القضائية التي تعقد، تتناول أساساً «إعطاء القضاة حقهم ضمن نظام مالي، ليكونوا بعيدين عن الإغراءات أنّى أتت»، مشيراً إلى الدور المفصلي للقضاة، الذين يجب أن يكونوا «مطمئنّين إلى أمنهم، مع القدرة على مواجهة التدخل في شؤونهم».