أحمد محسنكان ينقص أن نتحدث عن إعلان «المارلبورو» الشهير. للحظة، وأنتم شاردون في طفولاتكم، شردت في نفسي. تذكرت الإعلان ومشاهده القصيرة تعج بالتلال وأصوات الرياح التي تلفح ماء الوجه. تلك الموسيقى الخلّابة التي تذكّر بوجود رئة بين الرأس والصدر. نسيت. نسيت أن أتنفّس. نسيت أن أنسى. مشوَش بما يكفي لأتحوّل إلى صورة على جواز سفر أكبر من راحة اليد. واللون غير ذي فائدة فالثقب الأسود في رئة سوداء لا يحدث فرقاً. وهكذا ظل كلُ ما تمنيته من الكؤوس هو فمي، فلا أنساه فيها.
ما انفكت الموسيقى ترتفع وتهبط على طاولتنا فنتشارك أطرافها بلا عدالة: أنتم شاردون في طفولاتكم وأنا شردت في نفسي. تذكرت الإعلان وحسب. تلك الجبال التي تركض نحو الأبدية وتصل قبل لهفة رعاة البقر، والشمس التي تشرق في التلفاز ولا تجد رجالاً تقف فوق قاماتهم. تلك الأحصنة التي رأيتها تتجول في الحانة وتصهل في مكبرات الصوت. لم تتوقف عن تعداد المطاعم وصالات السينما والطرقات الطويلة التي انتهت. حبال رعاة البقر المتكبرين تدل الأقدام إلى الأبدية، والصهيل ذاكرة الأحصنة.
كنتم تسمعون موسيقى وكانت الحوافر تنقر عينيّ.

II


يمكن بعد عام، أن تحدث الأشياء ذاتها. أن نبتسم الابتسامة ذاتها ونقسو على الأرصفة ذاتها ونقول الأشياء ذاتها. يمكن أن نعيد الكلمات ذاتها، يمكن ذلك. الكلمات في حالة مثقوبي الذاكرة هي الصوت. لا تختلف أبداً، فالصوت هو ذاته قبل عام. المدينة مشغولة بالحيوانات المرقطّة الجديدة وعودة الفوضى الى أهلها. النادل منكبّ على نبيذ العائلة. يفكر كيف يقنع الحاضرين بأنه ليس بشعاً، فهو لم يختر ذلك الوجه وتلك الأسنان الصفراء. لا يهتم له أحد، وفي الحانة يمكن أن يتكرر أي شيء. لا داعي للحيرة. فلنسلّم جدلاً أننا أشجار تساير الفصول على طريقتها.
يمكن أن تمر مونيكا بللوشي في الحديث نفسه بعد عام. لم تتقدم في السن بعد وساقاها ما زالتا تخرسان بغلاً. ويمكن أن تظهر بائعة الورد المسنّة وألّا يكون معها وردة بنفسجية حتى ولو أمهلناها عامين آخرين. ما من أحد يوقف الفيلم. العرض متواصل. من يموت قبلاً من الأبطال، البائعة أم الفيلم الذي نحن فيه، وهما واحد ونحن معهما. إنها السادسة صباحاً بعد الحانة. يمكن أن نبدو حقيقيّين في الحانة كما في العام الفائت. طفلان، أقبل أن أكون البليد بينهما.
لكن، يمكن أيضاً، أن يلمع البرق كثيراً، ولا تمطر أبداً.

III


الخسارة الدائمة لا تعني بالضرورة أن الأفعال كانت خاطئة. ربما تحين مواعيد العودة إلى الكهوف في انتظار الأبدية. الكهوف هنا هي الوحدة القارسة التي توازي الرذيلة في صناعة الإبداع. وعلى الجميع التخلي عن القصائد السابقة. عليهم أن يبدأو قصائد أكثر ولوجاً في الحاضر. لا «ليلاس» في المغاور، و«الشوكولا» للصغار فقط. وأنا صرت كبيراً لا يستطيع أن يندم. وإلى ذلك، الكتابة ليست فعلاً مغرياً رغم كل المصطلحات الإضافية المتاحة. لا جدوى منها. نحن هنا أمام ذاكرة سحقتها شاحنة. نحن هنا أمام رائحة عالقة في وسادة مطحونة لم تعد تسع رأسي.
لكني مجبّر على الكتابة. أنا لا أصلّي، أتطهر من آثامي بما لا تجرؤونه جميعكم. أنا أبكي بلا حياء.