حتى الساعة، كل ما يُقال عن أسباب سقوط الطائرة الإثيوبيّة تقديرات واحتمالات لا يحسمها إلا الصندوق الأسود وما يخفيه، علماً بأنّ سرّ تحطم طائرة الإير فرانس في البرازيل منذ أكثر من ستة أشهر لم يكشف بعد، رغم العثور على الصندوق الأسود
غسان سعود
هناك عدد لا محدود من الاحتمالات في شأن أسباب سقوط البوينع 737 ـــــ 800 الإثيوبية. لكن معظم هذه الاحتمالات تتوزع على أربعة عناوين رئيسية:
1ـــــ خطأ تقني في الطائرة، وهو أمر قد يصعب كشفه في ظل سعي شركات تصنيع الطائرات إلى تبرئة صناعتها من أي خلل ومحاولة اتهام برج المراقبة في المطار أو الظروف المناخية بالوقوف وراء الكارثة، علماً بأن سمعة شركة بوينغ، في حال وجود خلل تقني، تكون على المحك في ظل المنافسة القائمة بين بوينغ وإيرباص، ما يؤدي إلى بذل الشركة جهداً جباراً لمنع توجيه أصابع الاتهام إلى الخطأ التقني في الطائرة. يشار هنا إلى أن صحيفة times البريطانية سارعت إلى نشر معلومات عن البوينغ التي لقيت مصيراً بشعاً قرب شاطئ بيروت، تشير فيه إلى أن الطائرة حديثة جداً، ودخلت حيّز العمل في حزيران 2007، ثم أجّرتها شركة بوينغ إلى الخطوط الجوية العمانية بين 21 أيار 2008 و8 أيار 2009، قبل أن تشتريها الخطوط الجوية الإثيوبية في أيلول 2009 من شركة أميركية. وحصلت آخر صيانة للطائرة في 25 كانون الأول الماضي، ولم يتبيّن وجود أية مشكلة تقنية.
تجدر الإشارة إلى أنه في 23 شباط 2009، توفي 9 أشخاص، بعدما اصطدمت طائرة بوينغ 737 تابعة للخطوط الجوية التركية بالأرض في مطار سكيبهول في العاصمة الهولندية أمستردام وانكسرت، ليتبيّن وجود مشكلة في الـaltimeter وهو الجهاز الذي يقيس المسافة بين الطائرة والأرض. وتبيّن للجنة التحقيق الهولندية أن قائد الطائرة اكتشف العطل في الـaltimeter على مسافة 150 متراً، وكان «السائق الأوتوماتيكي» يقود الطائرة فلم يستطع القائد الفعلي أن يفعل شيئاً. وبعد أسبوع واحد تكرر الأمر نفسه مع النوع نفسه من الطائرات في مطار هيثرو في لندن، حيث توقف الـaltimeter أيضاً، لكن تنبّه قائد الطائرة وتواصله الناجح مع برج المراقبة وإيقافه بسرعة «القيادة الأوتوماتيكية» سمحت بهبوط الطائرة بنجاح. وقبل أقل من شهر، انحرفت طائرة بوينغ 737 ـــــ 800 عن مسارها في مطار جامايكا خلال الهبوط، بحجة الأحوال الجوية، فخرجت عن المدرج واقتربت من البحر. وفي هذا السياق، يشير أحد الخبراء في هذا المجال إلى أنه يفضّل الإقلاع والهبوط بالطائرة يدوياً لا أتوماتيكياً، مشيراً إلى أن وجود مشكلة في الـaltimeter والإقلاع أتوماتيكياً في هكذا مناخ قد يبرران ما حصل.
2ـــــ خطأ بشري في الطائرة. وهنا ثمة احتمالان أساسيان يُتداولان:
إذا عُثر على الصندوق الأسود، فلا يمكن إلا شركة «بوينغ» فكّ رموزه
ـــــ الخطأ البشري في قيادة الطائرة، إذ كشف أحد المراقبين في برج المراقبة في مطار بيروت عن إقلاع سريع للطائرة التي تجاوزت خلال 3 دقائق و42 ثانية ارتفاع تسعة آلاف قدم. وبحسب رواية المراقب، فإن برج المراقبة تنبّه إلى اتجاه العاصفة، فطلب من قائد الطائرة الاتجاه إلى اليمين، لكن الأخير اتجه يساراً رغم تكرار برج المراقبة نداءه مرتين. فدخلت الطائرة، يتابع المراقب، في مسار العاصفة، وخلال ثوانٍ قليلة، انحدرت ألفي قدم، ثم انقطع الاتصال معها، وشاهدها برج المراقبة تهوي عمودياً حتى ارتطمت بسطح البحر وانفجرت. هذه النظرية لا تلقى تأييد معظم قادة الطائرات الذين يؤكدون أن الطائرة الخفيفة الحمولة (كحال البوينع الإثيوبية) يفترض أن تتجاوز ثلاثة آلاف وخمسمئة قدم خلال دقيقة واحدة. وبالتالي، لا شيء غريباً في ما يتعلق بسرعة الإقلاع. أما ذهاب قائد الطائرة يساراً رغم طلب برج المراقبة منه أن يذهب يميناً، فهو أمر طبيعي أيضاً، إذ لقائد الطائرة المقلعة الحق في التوجه كما يشاء، وعلى برج المراقبة تدبير أمره مع الطائرات الأخرى، علماً بأن بعض قادة الطائرات يرون أن الإقلاع العمودي في طائرة تمتلئ خزاناتها بالوقود وفي ظل مناخ عاصف قد يكون سبباً في حصول احتكاكات تؤدي إلى مشكلة كبيرة.
ـــــ إرهاق قائد الطائرة، وهو أمر مستبعد نسبياً، لأن آخر رحلة لقائد الطائرة كانت أول من أمس (آخر رحلة للطائرة كانت قبل نحو ساعتين، لكن آخر رحلة للطيار كانت قبل 36 ساعة)، إضافة إلى وجود طيّار مساعد، ما يلغي نسبياً هذه الفرضية. ويشير أحد الطيارين في هذا السياق إلى أن القاضي إذا أخطأ يموت المتهم، والطبيب إذا أخطأ يموت المريض، أما خطأ قائد الطائرة فيؤدي إلى موته قبل غيره، وبالتالي لن يغامر قبطان بقيادة طائرة إذا لم يكن مطمئناً إلى تمتعه بكامل قواه الذهنية.
3ـــــ خطأ بشري على أرض المطار، إذ استنفر المعنيون في مطار بيروت أمس لنفي هذا الأمر. ويحاول هؤلاء تبرئة أنفسهم من خلال التأكيد أن قائد الطائرة تأكّد بنفسه من جهوزية طائرته ووقّع على دفتر السلامة والجهوزية (note book وlook book)، وقام بجولة سريعة حول الطائرة قبيل الإقلاع، مع الأخذ في الاعتبار أن شركة الطيران الإثيوبية متعاقدة مع شركة «اللات» التي أشرفت بنفسها على تجهيز الطائرة قبيل إقلاعها.
4ـــــ خطأ بشري في برج المراقبة. هنا تجدر الإشارة إلى أن وفداً من لجنة الأشغال والنقل في المجلس النيابي زار أخيراً برج المراقبة وخرج مفاجأً من «البؤس الموجود هناك، سواء أكان لناحية إرهاق الموظفين أم لناحية الوظائف الشاغرة أم في ما يخص التجهيزات، وأقلّها أسطول الإطفاء البري والبحري غير الموجود تقريباً. وقد أعدّ النواب تقريراً قاسياً لمناقشته مع المراجع المعنيين، فيما يشير المعنيون في برج المراقبة إلى أن دورهم القانوني يقتصر على إعلان فتح أو إقفال المطار، وتقديم المساعدة لمن يطلبها، مؤكدين أن الرصد الجوي الموجود في برج المراقبة موجود أيضاً أمام الطيار. وكان لافتاً تهرّب المسؤولين في برج المراقبة من تحديد وجود حركة إقلاع وهبوط تزامناً مع إقلاع الطائرة الإثيوبية، فيما علمت الأخبار أن إقلاع الطائرة تزامن مع إقلاع طائرة أخرى متجهة إلى باريس.
5ـــــ الأحوال الجوية التي رأى وزير الدفاع إلياس المر أنها السبب وراء الكارثة، وسط كلام كثير عن إصابة الطائرة بصاعقة، علماً بأن هذا النوع من الطائرات مجهّز لمواجهة الصواعق. لكن المفارقة هنا أن المعنيين في برج المراقبة أكدوا عدم حصول انفجار قبل الارتطام، وجزم أحدهم بأن الطائرة هوت بداية نحو ألفي قدم ثم سقطت بطريقة عمودية، و«لم يسجّل حصول أي انفجار قبل الارتطام بالمياه». وذكرت مصادر رسمية أن سائق الطائرة حين فوجئ بالزوبعة حاول اختراقها، ما أدى إلى الكارثة. هنا، يُذكر أن لبرج المراقبة الحق في اعتبار المناخ غير ملائم للإقلاع، وبالتالي إقفال المطار، في وقت يؤكد فيه معظم الطيّارين أن التغيير السريع في الهواء يجعل الإقلاع من شاطئ البحر المتوسط والهبوط عليه صعباً جداً.
ربما مجموع هذه الافتراضات أدى إلى الكارثة التي وقعت، وربما بعضها، وقد لا يكون أحدها. في النتيجة، مرّ على كارثة تحطّم طائرة الإير فرانس في البرازيل أكثر من ستة أشهر ولم يكشف بعد سر ما حصل، رغم العثور على الصندوق الأسود. هذا الصندوق إذا وجد قرب شاطئ الناعمة، فلا يمكن إلا شركة بوينغ فكّ رموزه. ولن يكون ذلك قبل شهر على الأقل من العثور عليه، إذ يفترض أن يشارك في جلسة سماع تسجيلات الصندوق الأسود ممثلون للسلطات اللبنانية والإثيوبية والفرنسية والمنظمة الدولية للطيران وشركة بوينغ. وعندها فقط يكشف السر الذي يرجّح أن يبقى سراً، فيبقى للترجيحات سحرها.