14 جثة، وأشلاء لجثة، هي الحصيلة النهائية للضحايا الذين عُثر عليهم حتى مساء أمس، جرى التعرّف إلى أربعة منهم
مهى زراقط
مشهدان يختصران المأساة في مستشفى بيروت الحكومي أمس. الأول صرخة أمٍّ باكية عند مدخل الغرفة المؤدية إلى المشرحة، ترمي بنفسها على عناصر الأمن وترجوهم: «خلّوني فوت، أنا إمّو، إذا شفتو بعرفو». وفي الداخل، امرأة تحوّل لون وجهها إلى الأصفر، خرجت لتوّها من المشرحة. تقول لمن يسألها بصوت خافت مع هزّة رأس نافية: «مش ابنتي. فرجوني بنت سمرا وأنا بنتي شقرا».
بين الوالدتين، عشرات الأمهات، الآباء، الأبناء والأقارب. كلّهم يريدون الدخول للتعرّف إلى جثامين الضحايا، وكلّهم يتمنون أن تبوء رحلته إلى المشرحة بالفشل، لكي يبقى الأمل موجوداً. يعزّز هذا الأمل شائعة الصباح عن وجود سبعة ناجين، التي بقيت حقيقة تتردد على لسان الكثيرين حتى ساعات بعد الظهر مع انتشار أخبار عن صعوبة بقاء أحد على قيد الحياة. لكن قاسم خزعل، كان لا يزال متأمّلاً. أكد لأكثر من شخص تحلق حوله أنه تلقى اتصالاً يؤكد نجاة أحد الركاب واسمه باسم، «ابني»، يقول بتماسك حاول الحفاظ عليه، وسط صراخ الأهالي ودموعهم.
صراخ لم يجدوا من يسمعه في ظل الفوضى التي عمّت مدخل المشرحة حيث يتجمعون، والارتباك الذي ساد بين أفراد الطاقم الطبي في الداخل. غاب التواصل بين الطرفين فكانت للشائعات الحصة الأكبر. لا يكاد يخرج أحد أقارب الضحايا ليقول إن في المستشفى 20 جثة وسيعلنون الأسماء قريباً، حتى يجيبه آخر بأنّ المستشفى لم يصل إليه أي جثة. هذا ما يبرر شكوى إحدى السيدات من سوء المعاملة، أمام رئيس الجمهورية ميشال سليمان الذي زار المستشفى عند الساعة الخامسة مساءً. وبعد رحيله، حصل تلاسن بينها وبين وزير الصحة الدكتور محمد خليفة الذي قال لها: «لقد سكتّ في حضور الرئيس، لكني لا أوافقك على كلامك...». تصريح لم يصرّ عليه طويلاً مع دخوله إلى المشرحة والاطلاع على سير العمل، ليخرج مؤنّباً، ويقول أمام الصحافيين الذين تجمعوا في قاعة صغيرة لتغطية مؤتمره الصحافي: «طبعاً يوجد فوضى ويوجد تقصير». مضيفاً: «لكننا لم نطلب من الأهالي الحضور، ولا أرى لزوماً لوجودهم هنا إلا من باب العزاء»!
لكن هل يحتاج الأهالي إلى دعوة لكي يبحثوا عن مصير أولادهم؟
هل يحتاج الأهالي إلى دعوة لكي يبحثوا عن مصير أولادهم؟
سؤال تجيب عنه ساعات الانتظار الطويلة التي قضاها الأهالي عند مدخل المشرحة في انتظار وصول الجثامين التي تأخرت كثيراً. معظمهم قدموا إلى المستشفى الحكومي منذ الساعة العاشرة صباحاً، وكانوا قد سمعوا في الأخبار أسماء المستشفيات التي قيل إن المصابين سيتوزعون عليها، فانطلقوا في جولة بدأت من المطار، إلى المستشفى العسكري، فالمستشفى الحكومي. بل إن بعض العائلات وزّعت أفرادها في كلّ هذه الأماكن، كعائلة أسعد فغالي. يقول صهره إن أقاربه توزّعوا بين المستشفى العسكري ومستشفى الرسول الأعظم، فيما قدم هو إلى المستشفى الحكومي.
تمتد فترة الانتظار حتى الثانية عشرة ظهراً، تصل سيارة إسعاف وتنزل جثة واحدة. يتحلّق الأهالي حول السيارة ولا يتفرّقون إلا بعد سماع «شائعة» تفيد بأنّ الجثمان يعود لشخص اسمه طلال. معلومة سيتبيّن عدم صحتها لاحقاً، لأن الطاقم الطبي في المستشفى سيطلب من عدد من الأهالي الدخول للتعرّف إلى الجثة. «رجل كبير في السن، بلا رأس. شعر صدره أبيض ويرتدي بنطلون جينز أسود» يقول أحد الرجال الذين دخلوا إلى المشرحة. تصريحه يصيب الجميع بالقلق. سيكون من الصعب التعرّف إلى الجثث إذا وصلت كلها مشوّهة.
وربما كان هذا هو السبب الذي يدفع أحد أعضاء الطاقم الطبي إلى الطلب من الأهالي الموجودين في صالون الانتظار: «اللي عندو خَيْ أو أب أو ابنة، فليذهب مع الممرّضات وليجرِ سحباً للدم. نحتاج إلى إجراء فحوص للحمض النووي». ومع بدء وصول الجثامين، عند الساعة الواحدة والنصف، ستتضاعف عمليات سحب الدم، لأن العديد من الجثث وصلت مشوّهة بالفعل. فلم يتم التعرّف إلا على أربعة أشخاص: حسن تاج الدين الذي كان يحمل هويته في جيبه، الطفل محمد حسن كريك، الطفلة جويل محمد الحاج وأسامة مصطفى صفا، كما يؤكد الطبيب الشرعي أحمد المقداد لـ«الأخبار». يضيف أن المستشفى لن تيسلّم إلا جثمان تاج الدين لأهله، وسيُبقي بقية الجثامين، وخصوصاً الطفلين، لأنه لم يتم التعرّف إلى أهاليهم بعد.
المقداد أكد أن عد الجثث التي وصلت إلى المستشفى 14، إضافة إلى أشلاء جثة هي عبارة عن قدم يرجّح أن تكون لسيدة إثيوبية لأن بشرتها سوداء وتضع طلاء أظافر. فتكون الحصيلة النهائية: 4 جثث تم التعرّف إلى أصحابها، 5 جثث تعود لإثيوبيين و5 جثث تعود للبنانيين يحتاج التعرّف إليهم إلى إجراء فحوص الحمض النووي لأنها الطريقة الوحيدة التي ستتيح التعرّف إلى هوياتهم، متوقعاً إعلان النتائج خلال 72 ساعة.
يذكر أن شائعات كانت قد انتشرت عن وصول 11 جثة إضافية إلى المستشفى، معلومات نفاها فريق عمل الصليب الأحمر الذي أكد أن كلّ الجثث التي عُثر عليها نُقلت مباشرة إلى المستشفى من القاعدتين البحرية والجوية.


... وانتظار الإثيوبيّين معلّق

في زاوية المدخل المؤدي إلى المشرحة، اختارت مجموعة من السيدات الإثيوبيات التجمّع. لا يجبن عن أسئلة أحد ولا يبادرن إلى طرح أسئلة على أحد. كنّ واقفات فقط يراقبن اللبنانيين وهم يتحلقون حول سيارات الصليب الأحمر، وينتظرن أن يخرج أحد من الداخل ليحمل لهم خبراً ما.
وقت طويل ومحاولات متكررة نحتاج إليها قبل الحصول على ثقة إحداهنّ لتدلي بحديث: «ابنة خالتي على الطائرة. كيف أعرف ماذا حصل لها؟ أين أراها»، تقول.
يمرّ الوقت بطيئاً، قبل أن تقرّر الانتفاض على رجال الأمن الذين يمنعونها من الدخول إلى الغرفة المؤدية إلى المشرحة. «أنا بدي فوت شوفها؟ بس اللبنانيي مسموح يفوتوا؟». يقول لها أحدهم: «اذهبي وأجري فحصاً» فتفقد أعصابها وتصرخ: «أنا ابنة خالتها، شو بدو يبيّن بالفحص؟ فوتوني»، ثم ترمي نفسها على الأرض. عندها يقرّر الضابط المكلّف السماح لها بدخول الغرفة، ثم المشرحة، لتخرج بعد نحو نصف ساعة مصدومة: «رأيت ثلاث جثث. ماكيام ليست بينهنّ». نسألها إن كنّ مشوّهات فتجيب: «شوي لكن يمكن أن يُعرفن». تجلس منهارة على الكرسي وقربها صديقتها، وتتباحثان ماذا ستجيبان العائلة في إثيوبيا: «والدة ماكيام توجهت إلى المطار لاستقبال جثمانها، قلنا لها إن هناك احتمال أن تكون إحدى الإثيوبيات على قيد الحياة كي تعود إلى البيت».
في إثيوبيا العائلات تنتظر على أحرّ من الجمر، يؤكد جوزف اللبناني، الذي يصل إلى المستشفى برفقة زوجته الإثيوبية سِهال. الأخيرة تبحث عن أختها آلمش، التي لم تجدها أيضاً بين الجثث الثلاث التي قيل إنها تعود لإثيوبيات.
من جهته أوضح وزير الصحة محمد خليفة رداً على سؤال عن طريقة التعامل مع الإثيوبيين، وعدم إمكان إجراء فحوص الحمض النووي لهم لأن أقاربهم ليسوا في لبنان، أن التواصل جارٍ مع السلطات الإثيوبية، ومع أرباب عمل الإثيوبيات في لبنان لتسهيل التعرّف إليهن.