رنا حايكبنت عروس، صهر عريس، وزوجة ورفيقة درب. تلك كانت حصيلة اليوم المشؤوم بالنسبة إلى المهندس حسن وزنة. وقعت الفاجعة على خمسة أبناء للوالدة هيفا من بينهم: فتاة في الثانية عشرة من عمرها، شاب في الواحدة والعشرين وتوأم في التاسعة، وعلى الأهل والأصدقاء والجيران الذين التموا منذ ساعات الصباح الأولى ليوم أمس في منزل الأسرة المنكوبة في حي الأميركان في منطقة الحدث. هناك، كان الرجال واجمين في مجلسهم، لا يوقظ الصمت المخيم عليهم سوى رنين الهاتف من وقت لآخر. رنين يحمل يقيناً تصديقه مؤجّل عن ثلاثة أفراد غائبين عن المنزل، اتصل الجار الذي يعمل في المطار عند الساعة السادسة والنصف صباحاً يبلّغ أسرتهم عن وقوع الطائرة التي ركبوها. بالكاد يستطيع الزوج والأب المفجوع، الذي يعاني مرض القلب وداء السّكري، التغلب على وجعه والصمود على تلك الكنبة في الصالون الواسع. أبناء العم هم من يلبون نداء الثلاجات للتعرف إلى كل جثة جديدة تنتشل، وإلى حين التعرف إلى الجثث، لا عزاء في منزل آل وزنة. لا تلاوة قرآن، ورفض قاطع للاستجابة إلى دعوة أحد الداخلين للمواساة الذي ما إن نطق:»الفاتحة» حتى ثناه الموجودون عن تلاوتها. لعلها لا تكون واجبة...
أما النساء، فرغم اتشاحهن بالسواد، يعاندن التصديق ولو استسلمن له، لا يفقدن الأمل تماماً. ليس فقط لأن «الأمر عند ربنا ومش عند العبد. بهاييتي لاقوا ناجين بعد 12 ساعة من الزلزال»، كما تقول إحداهن، بل لأن «عائلتنا تتقن السباحة. ولديها قصة مع البحر تعود لخمس عشرة سنة مضت. قصة انتهت بانتصار ابن العم، محمد وزنة، مدير طيران الشرق في أبيدجان. يومها، تحطمت الطائرة التي كانت تقله إلى بيروت، نجا من الارتطام بأعجوبة، وبدلاً من أن يستسلم للأمواج ويتركها تحدد مصيره، استجمع ما بقي من قوته، وضع باسبوره في سرواله، وسبح لمدة 6 ساعات متواصلة في المحيط، إلى أن وجده الصيادون على شاطئ إحدى البلدان الأفريقية، فعاد»، كما تسرد الحاجة دوللي، ابنة عم هيفاء، رغم اعترافها بأن «الأمل ضئيل، ويتضاءل أكثر فأكثر كلما شاهدنا النقل الحي على التلفزيون، لكن ما فينا نقول إلا إن شا الله». تروي الحاجة دوللي كيف حاولت ثني هيفا عن السفر، فالتوأم لا يزالان صغيرين، أحدهما مريض يخضع كل فترة لعملية جراحية بعدما وقع عن صهوة حصان كان يمتطيه، إلا أن هيفا أصرّت لأن «روان بدها اياني كون معها لتجهّز بيتها». فروان عروس لم يمض على زواجها أكثر من شهر، عادت لتوها من شهر العسل في ماليزيا، وكانت تستعدّ لإكمال حياتها إلى جانب زوجها، المقاول الشاب باسم خزعل، إلى أن ركبت تلك الطائرة المشؤومة. وبين تخمينات النساء حول سبب وقوع الطائرة، من «كان فيه خبيراً قال قلّعت غلط» إلى «صاعقة مسّتها» أو «فجر شي فيها بالجو»، عنصر واحد يتفقن عليه جميعاً ويردّدنه: «أوروبا سكّرت المطارات لأسبوع بسبب الجو. ليش خلوهن يطلعوا بالطيارة عنا؟ ما بيكفي عم بيموّتولنا كل شي عالأرض، كمان بدن يموّتونا بالجو؟».
فانتماء معظم ضحايا الطائرة اللبنانيين الجنوبي لم يمرّ من دون إدراجه في سياق أن «أهل الجنوب مغضوب عليهن دايماً عالأرض من إسرائيل وبالجو من الطبيعة»، كما تقول الحاجة دوللي، سائلة بأسى: «كام ضيعة حادة اليوم بالجنوب؟ وكام عيلة لابسة أسود؟»، ولافتة بمرارة فطرية إلى مشاهد مفجوع استفزّه النقل الحي على الشاشات «طوشونا بزوجة السفير الفرنسي من الصبح. شو هيي ناس وكل أحبابنا اللي ماتوا مش ناس؟».