كان فجر النبطية بارداً أمس، على عكس خبر كارثة الطائرة الإثيوبية الذي استفاق عليه أهلها، ليبدأوا بحثاً مقلقاً عن أسماء راكبي الطائرة، باعتبار أنّ ثلث أبناء المدينة ينتشرون في دول الاغتراب، وخصوصاً في أفريقيا، ويستقلون عادة هذه الطائرة لكونها تختصر المسافة ولأنها أوفر من غيرها
كامل جابر
لم يمر وقت طويل على شيوع خبر الطائرة المنكوبة، قبل أن يتيقن أهالي النبطية أن أربعة من أبناء مدينتهم كانوا على متن الطائرة، هم: الشقيقان فؤاد وعباس محمد حبيب جابر، علي أحمد جابر وحسين يوسف الحاج علي، بينما حصدت المحافظة ضحايا آخرين هم: الشاب محمد علي قاطباي (أرنون)، علي يوسف جابر (ميفدون)، أنيس مصطفى صفا (زبدين)، حيدر حسن مرجي من بيروت وسكان زبدين، حسين كمال حايك (كفرتبنيت)، ياسر عبد الحسين إسماعيل (زوطر الشرقية) وحسين موسى بركات من يحمر (الشقيف).
هكذا، عمّ الحزن المدينة التي أقفلت أبوابها وأسواقها التجارية والعديد من مدارسها، وحضرت إلى أذهان الأهالي قضية طائرة «كوتونو» في بحر «بنين». يومها، فقدت المدينة على متنها خمسة من شبابها، فضلاً عن عشرات الضحايا من منطقة النبطية ومختلف المناطق الجنوبية.
في المأساة، تحضر «الاتهامات» على ألسنة الأهالي وذوي المفقودين والضحايا، إما بالتقصير في مراقبة الصيانة وإما بسبب السماح للطائرة بالإقلاع وسط هذه الظروف المناخية الصعبة. ويطول الحديث عن «لقمة العيش» للمغتربين، المجبولة بالدماء والخطر الدائم، «إذ إنّ من يسلم من أيدي القتلة والسارقين في أفريقيا، يموت من جراء سقوط الطائرة»، تقول شقيقة حسين جعارة «الذي سافر من عدة أيام إلى الغابون وسبق قريبنا حسين يوسف الحاج علي، بعدما كان مقرراً أن يسافرا معاً الخميس الماضي».
تذرف هويدا حرب الدموع حزناً على زوجها حسين الحاج علي الذي كان يعمل ميكانيكياً في الغابون منذ 12 عاماً، ثم حضر إلى لبنان منذ سنتين وقرر فتح مصلحة هنا لبيع قطع السيارات، لكنه قرر تجديد جواز سفره الغابوني بعد التهديدات الإسرائيلية الأخيرة.
تختنق حين تتذكر كيف بكى أطفالها الثلاثة علي (14 عاماً) ونور (11 عاماً) وليلى (سنتان) عندما علموا بسفر والدهم، فطمأنتهم إلى أنه لن يغيب أكثر من أسبوعين، وسيعود، «وكأنهم كانوا يدركون أنه لن يعود».
وفي منزل علي أحمد جابر (41 عاماً) تزدحم الغرف بالوافدين من أبناء المدينة، يستقبلهم والد زوجته، مختار كفرتبنيت يوسف ياسين، «لأن شقيقه الكبير حسن انتقل إلى مطار بيروت». وكلما دخل زائر جديد يستقبله بالنحيب ويردد: «لا تعزونا، ادعوا لعلي أن يكون حياً».
يؤلمه أن يتذكر كيف أرجأ علي سفره منذ سنتين، وقال له: «يا عمي أخاف أن أسافر في طقس كهذا، لكن هذه المرة سلمها ربانية». أما في الغرفة الثانية، فلا يتوقف صراخ النسوة وشقيقات علي التسع. علي والد لثلاث بنات وصبي، وهو صاحب معرض لبيع السيارات في النبطية، وله مصالح في الغابون ساهمت في تنامي وضعه الاقتصادي والمعيشي.
كأن محمد حبيب جابر كان يعلم أنّه سيكون الوداع الأخير لولديه فؤاد (52 عاماً) وعباس (40 عاماً). يقول: «وصلنا في الثانية عشرة، وانتظرت معهما حتى الثانية بعد الظهر، ثم نصحاني بأن أعود إلى النبطية كي لا أغفو أثناء القيادة ولوّحا لي طويلاً بأيديهما».
يغرق أبو فؤاد في بكاء طويل: «يا ويلي كيف بدي اتحمل جنازتهما، عباس عريس، لن يرى ابنه من زوجته الحامل، ما هذه الفاجعة يا ربي منذ شهرين شيعنا والدتهما، وحضرا من الغابون من أجل ذلك، وغداً سأشيعهما؟ الموت لي نعمة من هذه الحياة».
فؤاد والد لثلاثة أطفال، كاتي وعباس وجواد. بدأ بتأسيس أعمال في النبطية، لكنه لم يتمكن بعد من التخلي عن مصلحته في الغابون التي هاجر إليها منذ ثلاثين عاماً. «تأكل الغربة أولادنا لأن الدولة لا ترعاهم أو تحفظهم»، يقول الوالد المفجوع.