لم يُخفِ البحرُ، جارُ بيت رنا يوسف الحركة وابنتها جوليا، في الأوزاعي، السر على أسرتهما، بينما لم ينتظر أن يفرح علي سهيل ياغي بتجديد «الفيزا» الأنغوليّة
قاسم س. قاسم
كان الانتظار طويلاً، في منطقة الأوزاعي، حيث منزل رنا يوسف الحركة، ابنة الـ26 عاماً، التي قتلت هي الأخرى في حادثة سقوط الطائرة الإثيوبية أمس. تنتظر العائلة من يحمل لها خبراً عن ابنتها، لكن لا أحد يتوقع ورود نبأ مفرح مثل العثور على ناجية. لذلك، ربما، رضيت العائلة بقضاء الله وقدره، فبعدما وصل نبأ سقوط الطائرة منذ الصباح، أعلنوا وفاة رنا مباشرة عبر مكبرات صوت مساجد منطقة برج البراجنة. لم تقتصر خسارة العائلة على رنا، بل فقدت أيضاً ابنتها الرضيعة جوليا محمد الحاج التي تبلغ من العمر عامين وزوجها محمد عبد الحسين الحاج. هكذا، نصبت خيم العزاء وتجمع أهل الضحية والجيران أمام المنزل المشرف على البحر، راقبوا السفن تجوب المياه أمامهم، مدركين صعوبة أن يكون قد بقي «فيها حدا طيّب»، كما قال شقيقها محمد. يقف شقيقها المصدوم، يتقبل التعازي بشقيقته، يرنّ هاتفه، شقيقه حسن على الطرف الآخر. «جاي على الخطوط الإثيوبية؟ يا أخي ما تجي»، يصرخ عبر الهاتف عندما علم بأن حسن سيأتي من أفريقيا للتعزية بشقيقته. يحاول الحضور تهدئة محمد الخائف من أن «يصير فيه متل رنا، بيكفّينا 3 بالعيلة». ما يجري لم يكن متوقعاً، الصدمة ظاهرة على وجوه الحاضرين. فجأة، يعلو صراخ النسوة ليصل إلى مسامع الواقفين في الخارج. يرد خبر عاجل فتنقله إحدى الحاضرات، «وصول عدد من الجثث إلى مستشفى بيروت الحكومي وانتشال جثة طفلة رضيعة». يدير شقيق رنا الأكبر محرك سيارته، «رايح على المستشفى لأتأكد»، يقول. «صار رايح 3 مرات وما في شي، إنّا لله وإنّا إليه راجعون»، يردد محمد. تشتد سرعة الرياح، يسرع الجميع إلى الداخل، يلتفت محمد باتجاه البحر،
أعلنوا وفاة رنا مباشرة عبر مكبرات صوت مساجد منطقة برج البراجنة
«كيف سيستطيع المنقذون انتشال الجثث في هذا الطقس»، يقول. هكذا، انقسم المنزل بين من يتابع النشرات الإخبارية، الرد على الاتصالات المعزية، أو تلك التي تريد التأكد من صحة ما سمعوه. في صالون التعزية، تجلس النسوة حول الأم الثكلى التي فقدت منذ أسبوع حفيدة. تلطم الوالدة على صدرها ووجهها، تصرخ: «ليش يا الله الثلاثة، كنت اترك لي حدا منهم». تلتفت السيدة الستينية في اتجاه البحر، ترى البارجة التي تبحث عن الضحايا تقترب أكثر من الشاطئ وكأنها سترسو أمام منزلها، تبكي «راحت رنا وجوليا، ومحمد يا الله». تحاول النسوة تهدئتها مجدداً: «هيدا قضاء الله وقدره يا حجة»، لكنهن لا ينجحن في ذلك. هذه المرة تتوجه بالحديث إلى البحر: «كيف قدرت تبلعهم؟ رجّعلي بنتي»، تقول.
في الطرف الآخر، تراقب بعض النسوة شاشات التلفزة، ينتظرن ورود أي خبر جديد عن انتشال جثث، ليذهب شقيق رنا إلى المستشفى مرة أخرى ليحاول التعرف إلى جثة شقيقته، ابنتها، أو زوجها. هكذا، أصبح الوقت سيفاً مصلتاً على رقبة الأهل، الجميع بانتظار ورود أيّ خبر جديد. يقف شقيقها على النافذة يراقب السفن، يشير بإصبعه باتجاه الأمواج: «إذا على الشطّ والموج قوي فكيف بالبحر جوّا»، يقول. ينسحب الرجل من الصالون ليقف في الخارج، يشرح أن «شقيقتي كانت في زيارة للبنان، وكان زوجها قد قرّر العودة للعمل، لكن عمرها وعمر ابنتها كانا قصيراً».
من الأوزاعي إلى الطريق الجديدة، هكذا، طالت الكارثة عائلات لبنانية ترك أبناؤها الوطن من أجل العمل في الخارج لكسب لقمة العيش، تماماً مثل الإثيوبيات اللواتي كن يذهبن لقضاء إجازتهنّ في بلادهنّ. علي سهيل ياغي أحد هؤلاء، أمضى الشاب أسبوعين في لبنان من أجل إعادة تجديد تأشيرة دخوله إلى أنغولا. تجلس العائلة في منزلها الكائن في الطريق الجديدة، تنتظر هي الأخرى ورود أي نبأ جديد، رافضةً فكرة موته في البدء، ربما «هناك ناجون محتملون، عساه يكون واحداً منهم»، تقول خالته. لكن الوقت يفعل فعله بالعائلة، قاتلاً الأمل بإمكان نجاته. لم يكن مقرراً لياغي السفر اليوم، كما أن شركة أطلس لتصدير المواد الغذائية التي يعمل فيها في أفريقيا طلبت منه بدورها الحجز على الخطوط الإماراتية بدلاً من الإثيوبية، لكنه رفض ذلك. تروي ابنة خاله حالة الصدمة التي تعيشها العائلة وعدم تصديقها الخبر حتى الآن. فهي «المرة الأولى التي يتم فيها تجديد الفيزا بهذه السرعة». تضيف: «عادة كانوا يتأخروا بإعطائه إياها، كما أن يوم سفره كان مقرراً نهار الأربعاء المقبل، لكن الشركة طلبت منه العودة بسرعة نتيجة ضغط العمل». لم تستطع الأم الانتظار في المنزل، فتولت مهمة البحث عن ولدها. انتقلت الوالدة من مستشفى إلى أخرى، بحثاً عنه، حتى يئست وعادت إلى منزلها. الجميع الآن في انتظار أي جديد، قد تورده الوسائل الإعلامية، وبما أن الانتظار طويل تتذكر العائلة علي الذي كان «يحب يسهر معنا، ويساعد العالم دائماً». تروي قريبته سارة شريف كيف «رفض علي الزواج ليساعد أهله بتقسيط منزل». أما كيف تبلغ أهله الخبر فتقول: «اتصل صديقه من المطار طالباً من العائلة أن تشاهد التلفزيون، جلست والدته تتأمل الفضائيات، ورد خبر عاجل عن نبأ سقوط طائرة إثيوبية، حاول أشقاؤه إخبار والدتهم بأنها ليست هي الطائرة التي استقلّها علي، لكن قلبها كان دليلها». تمرّ الثواني ثقيلة، يرد اتصال لشقيق علي الأصغر، يذهب الشاب إلى المستشفى، لكن هذه المرة لإعطاء «خزعة من أجل فحص الحمض النووي «دي. أن. آي» الذي يجرى للتحقق من هوية الجثث غير المعروفة».