يوم جديد يمرّ على كارثة الطائرة الإثيوبية، من دون جديد، سوى وهن القوى وفقدان الأمل الذي كان. أما الألم، فلا يزال هو هو: قاسٍٍ وحارق وظاهر للعيان أمام باب «غرفة الموت» في مستشفى بيروت الحكومي
راجانا حمية
متعبة رائحة الموت أمام «مشرحة» مستشفى بيروت الحكومي. وحدها كانت تطوف هناك أمس، بعدما غارت آمال المفجوعين بنجاةٍ مستحيلة لركاب الرحلة الجوية 409. لا يسع الداخل إلى «حرم» الموت الطارئ إلا الشعور بتلك الرائحة التي تُشبه تماماً الألم الذي يجثم فوق صدر والدةٍ مفجوعة يرقد وحيدها في ثلاجة.
أمس، لم تخفّف شمس كوانين، المفاجئة بدفئها، من الإحساس برهبة الموت وبرودته، الصمت سيد المكان، إفساحاً في المجال أمام أنّات أمهات باتت أقصى أمنياتهنّ الفوز بأي شيء يدل على جسد الولد الذي ابتلعه البحر.
يوم آخر بعد الكارثة. ثمّة ما تغيّر عند عتبة باب الموت، اسم المشرحة في المستشفى. خفَتَ كل شيء: بصيص الحياة الذي كان، حتى ليل أول من أمس، يحكم المنتظرين، وكذلك احتمالات العثور على أمواتٍ بأجسادٍ كاملة. هكذا، كان نهار أمس مثقلاً بانتظار أجسادٍ سيلفظها البحر. لكن، لم يأتِ من هناك إلا بضعة أشلاءٍ، وصلت على ثلاث دفعات. نتف لحم ولا شيء آخر. ثمة شيء وحيد يمكن وصفه بالجديد أيضاً، وهو تسليم إدارة المستشفى جثّة علي أحمد تاج الدين لذويه. وقد وُوري في الثرى عند الثالثة من بعض الظهر في بلدته حناويه في الجنوب. وما عدا ذلك، لا جديد. انتظار وألم وبكاء، حتى البكاء، بات شحيحاً.
التاسعة صباحاً، أمام مشرحة مستشفى بيروت الحكومي. المشهد لا يشبه صباح الكارثة. لا زحمة مفجوعين ولا صراخ ولا عويل، باستثناء امرأةٍ واحدة تصرّ على عيش الحزن بما بقي فيها من القوة. هي زينب جابر، شقيقة علي أحمد جابر، التي نامت أول من أمس على رصيف المستشفى، في انتظار «خبر عن علي». كانت أمس تصرخ أمام «المعزّين». تحاول جاهدة إقناعهم بأن «علي رح يرجع بالسلامة. ما فيه يترك الأيتام اللي كافلهم. علي ما بيعملها». تستكين قليلاً، ثم تغوص في نوبة بكاءٍ أكثر ألماً من سابقتها، وهي تردّد «يا تقبرني يا علي. تسلملي يا حنون». تنتفض من مكانها وتركض في باحة المستشفى، ناظرة في العيون المتطفّلة على ألمها، وهي تقول «ولك يا عمي الفراق صعب، وخاصة علي».
لن تقبل زينب احتمال موت علي، رغم محاولات رئيس قسم الأمراض النفسية في المستشفى، الدكتور صلاح عصفور، إقناعها بالخبر السيئ المحتمل. لكن، لا شيء سيحيدها عن قناعتها إلا «جسد علي المسجّى».
هكذا، هم المفجوعون في غالبيّتهم. لن يصدّقوا حتى يروا الموت، لا سماع أخباره. ولهذا السبب، أصرّوا على البقاء أمام المشرحة بانتظار مناداة المسؤولين هناك بعضهم لبعض للتعرف على الجثث التي لم ينل التشوّه منها. لكن، لم يناد هؤلاء سوى على اثنين: زوجة حيدر حسن مرجي وعم الطفل محمد حسن كريك، وسام كريك الذي نجا من أن يكون في المشرحة بتأجيل رحلته.
حضرت زوجة مرجي برفقة النائبين علي بزي وهاني قبيسي وشقيقها وزوجته. وصلت الشابة إلى المشرحة، وقبل دخولها، سألها النائب بزي إذا كانت فعلاً تريد الدخول، فأتاه الجواب «نعم، أحتاج لرؤيته». اختفت بين المتجمهرين على باب المشرحة. كان الواقفون خارجاً ينتظرون خروجها لرؤية ملامح وجهها التي ستحدّد ما إذا زوجها، ذلك القابع في البراد أم سواه. لم تطل لحظة التكهنات، حتى خرجت الشابة المتّشحة بالسواد بعينين مغرورقتين بالدموع، وهي تتمتم كلماتٍ غير مفهومة. كان واضحاً من حركة يدها المضمومة إلى صدرها، أنها كانت تصف بها حركة يد زوجها الذي وجدته في الداخل.
رحلت، فيما زوجها بقي هنا. إذ أعلن وزير الصحة العامة الدكتور محمد جواد خليفة أنه لن تُسلّم الجثث التي تمّ التعرف إليها ، ومنها مرجي، إلا بعد صدور نتائج فحوص الحمض النووي. مؤكداً «أننا لن نكتفي بشهادة الأهل لتسليمهم الجثث».
ربما، ينبغي على السيدة المفجوعة انتظار 48 ساعة إضافية لتسلّم جثّة زوجها، إن لم يكن أكثر. فبحسب خليفة «لا يمكن تلك الفحوص أن تصدر نتائجها قبل 9 أو 10 أيام». لكن، انتظار وسام سيطول أكثر. العم الذي تعرّف إلى ابن شقيقه محمد حسن كريك من يده المحروقة والثياب الباقية على جسده بعد ضياع رأسه في الرحلة، سينتظر أكثر من تلك الأيام التي حددها خليفة، لأن العائلة «بانتظار إيجاد شقيقي عدنان والد محمد وتسلّمهما معاً».
أما الباقون؟ فوقفوا أسراباً، أمّهات وأباء، أمام باب الطوارئ، ينتظرون دورهم لإجراء فحص الحمض النووي، لمطابقتها على الأجساد المشوهة التي لم يتعرفوا إليها. الحصيلة لا تزال نفسها: 14 جسداً، تعرّفوا منها على خمسة، ما عدا تاج الدين الذي دُفن أمس. ومن بينهم مرجي وكريك الطفل وأنيس صفا وطوني الزاخم وجوليا الحاج. لكن، لا تسليم قبل «تبيان كل شيء بطريقة علمية»، يشدّد خليفة.
وما بقي من الجثث المشوّهة، ينتظر أيضاً نتائج الفحوص التي طلبت للبنانيين الـ54. وأشار خليفة إلى «أنهم جميعاً أجروا الفحوص، باستثناء عائلة آنا محمد عبس التي أرسلنا إليها فريقاً كي يجري لأفرادها الفحوص حيث هم».
أما الإثيوبيون الخمسة المشوّهون كلياً، فينتظرون قرار قنصليّتهم الذي سيطلب «على الأغلب إجراء الفحوص لذويهم في إثيوبيا وإرسالها إلى وزارة الصحة والأدلة الجنائية لاستكمالها»، هذا ما يقوله «مندوب» القنصلية، باسّا تكلي، الذي حضر أمس «بصفة شخصية»، كما أوضح، لمشاركة «أبناء بلدي بمصابهم». وبعد هذه الخطوة، يتحدد مصيرهم وكيف سيتم ترحيلهم استناداً إلى الاجتماع الذي ستقيمه القنصلية ولجنة الخبراء الإثيوبيين التي حضرت أمس إلى لبنان، كما يتوقع أن يشارك في ذلك وزير الخارجية الإثيوبي الذي يصل اليوم. ولكن إلى حين ذلك سيبقون في المشرحة. وبالعودة إلى هؤلاء، يشير أحد العاملين في المشرحة إلى أنه «على ما يبدو أربعة منهم مضيفون في الطائرة، والخامس رجل أمن، بحسب ما تشير جعبة المسدس على خاصرته». ويضيف هذا العامل معلومة أخرى «غير رسمية»، وتتعلّق بـ«الشك بإحدى الجثث التي يمكن أن تعود إلى رجل صيني أو فيليبيني».
باستثناء تلك المعلومات التي أكّدها الطبيب الشرعي المسؤول في المشرحة، الدكتور أحمد المقداد، كانت الأخبار التي تصل من غرفة الموت «غير رسمية». لكنّ ثمة أمراً وحيداً لا يمكن التغاضي عنه، وهو «الخبريات» عن الجثث المشوّهة في الداخل. فكل من دخل لتفقد الجثث خرج مصفرّاً من هول الرؤية. وهنا، يشير الدكتور المقداد إلى أن «الجثث المشوّهة، بعضها محترق أو غير ظاهر الملامح». أما الخارجون من هناك، فيقولون عبارة مشتركة: «كأنهم مقصوصون بالمقصّ، وبعضهم انتزعت جلدة رأسه»، يقول عضو المكتب السياسي في حركة أمل جميل حايك. ويأمل الوصول إلى تحديد هوية هؤلاء وانتشال جثثٍ أخرى، كي «نقيم دفناً جماعياً لهم». لكن، هذا الدفن الجماعي «تحدد مصيره كمية المعلومات التي سنحصل عليها وانتشال جثث جديدة».
لم يترك «الحاج حايك»، كما كانوا ينادونه أمس، باحة المستشفى. حضر منذ الصباح الباكر لمتابعة الأوضاع وإطلاع الأهالي على ما يجري داخل المستشفى. وبين الفينة والأخرى، كان يلاقي الوفود السياسية التي تحضر لمواساة الأهالي وإطلاعهم على ما يجري على الشاطئ.

خليفة: لن تسلّم الجثث التي تمّ التعرف إليها إلا بعد صدور نتائج فحوص الحمض النووي
حضر الكثيرون. النائبان علي بزي وهاني قبيسي، أعضاء لجنة الصحة النيابية ووزير الخارجية علي الشامي. أما الوزير خليفة، فكان يدير «غرفة العمليات» في المستشفى. وقد عقد عند الظهيرة اجتماعاً مع لجنة الصحة النيابية، أعلن عقبه أن «تسليم الجثث يخضع لصدور نتائج فحص الحمض»، مؤكداً «أننا نعطي الأولوية لمن تعرّف عليه ذووه، للإسراع في تحصيل النتائج وتسليمهم إياه». وقد استغل خليفة المناسبة للطلب من الأهالي عدم «الانتظار أمام المستشفى لأنه لن يجدي نفعاً، وخصوصاً أنه في حال الحصول على المعلومات فستكونون أول من يبلّغ بها». أما عن فحوص الحمض النووي، فقال خليفة «نجري فحصاً دقيقاً بين وزارة الصحة والأدلة الجنائية للوصول إلى معلومات مؤكدة». لكن، للأهالي المتجمهرين حول الوزير أسئلتهم أيضاً عن «فترة الأمل». سأل أحدهم «ماذا لو لم تجدوهم، ماذا ستفعلون وماذا سنفعل». يجيب الوزير: «لم نفقد الأمل، وخصوصاً أن عملية التقصّي والإنقاذ لن تقلّ عن 72 ساعة، وإن شاء الله بنلاقيهم كلهم».
وسط هذه الزيارات، لم يحظَ الإثيوبيون حتى مغادرتنا، بزيارة رسمية لممثلين عن قنصليّتهم. فكل ما حظوا به ثلاثة مطارنة مقيمين في لبنان، حضروا للصلاة لراحة نفس أبناء بلدهم. لا شيء أكثر من ذلك. فقد تُرك هؤلاء لقدرهم ولـ«المدام» التي بالكاد تسمح لهم بمتابعة الأخبار أو الحضور إلى المستشفى.