صندوق الحقيقة الأسود لا يزال ضائعاً في قعر البحر، ومعه لا تزال الأسئلة تطفو من دون أجوبة مقنعة توضح أسباب سقوط الطائرة الإثيوبية فجر أول من أمس. وحتى ساعات متأخرة من ليل أمس، لم يكن قد عُثر على الصندوق، رغم أنه مزود بجهاز تحديد مواقع من جهة، وأن عمق المياه في منطقة سقوط الطائرة لا يزيد على 100 متر، من جهة أخرى. في المقابل، تمكنت فرق البحث والإغاثة أمس من تحديد مكان وجود الطائرة في قعر مياه البحر. ويحوي الصندوق الأسود تسجيلاً لآخر نصف ساعة من المحادثات التي دارت بين الطيار وبرج المراقبة، وداخل قمرة القيادة. وإضافة إلى ذلك، يحوي الصندوق تسجيلاً ثانياً لحركة كل أجهزة الطائرة وطريقة عملها وتفاعلها مع ما جرى منذ الإقلاع حتى السقوط. ولأن الفترة الزمنية بين الحادث والإقلاع قصيرة جداً، يتوقع المتابعون أن يكشف الصندوق كل الحقيقة المتصلة بهذه القضية.وفيما بدأت لجان التحقيق عملها لمحاولة الوصول إلى الحقيقة، تمحورت أعمالها أمس حول جمع المعطيات المتعلقة بالطائرة، سواء لناحية الفحوص التي أجريت عليها قبل انطلاقها، أو لجهة الدقائق التي فصلت بين الإقلاع وانقطاع الاتصال في الدقيقة الأخيرة التي سبقت ارتطامها بسطح الماء. والدقيقة الأخيرة هي التي لا يمكن الاطلاع عليها إلا من خلال مضمون الصندوق الأسود.
وأكدت مصادر مطلعة على التحقيق أن الوثائق الموجودة في المطار أكدت خضوع الطائرة قبل انطلاقها لكشف من مهندس أرضي حائز شهادة يعترف بها الطيران المدني اللبناني، من دون أن يؤدي الكشف المذكور، بحسب السجلات المتوافرة، إلى تبيان وجود أي عطل تقني فيها.
ورغم ذلك، فإن أكثر من مصدر معني بالقضية استبعد أن يقتصر سبب سقوط الطائرة على الأحوال الجوية فقط. إذ إن «ثمة ما منع قائد الطائرة من الانعطاف بناءً على توجيهات برج المراقبة، رغم أنه أبلغ البرج بأنه سيمتثل للطلب». وبحسب المصادر ذاتها، أفاد برج المراقبة الطيار بأنّ الاتجاه الآمن للهروب من العاصفة هو 270، طالباً منه الانعطاف غرباً لتجنب العاصفة التي كانت تبعد عن المطار نحو 5 كيلومترات. فأجاب الطيار بكلمة «روجر» (أي تلقيت وسأنفذ). ثم انقطع الاتصال بين الطرفين قبل أن تهوي الطائرة على دفعتين.
وأكدت مصادر مطّلعة أن برج المراقبة لم يكن مقصّراً عندما سمح لقائد الطائرة بالإقلاع، إذ إن الحالة الجوية لم تكن تستدعي وقف الملاحة. إضافة إلى ذلك، فإن البرج لا يجبر ربان الطائرة على الإقلاع بها، وخاصة أن البيانات التي تتوافر لبرج المراقبة تكون متوافرة، بالدقة ذاتها تقريباً، للطيار من خلال أجهزة الكشف المثبتة أمامه، وتحديداً عندما يتعلق الأمر بالمعلومات عن أحوال الطقس وسرعة الرياح وما إلى ذلك من معطيات يمكنها أن تؤثر على حسن سير الرحلة.
عند هذه النقطة، تكون الرواية اللبنانية قد وضعت وزر ما جرى إما على ربان الطائرة، وإما على عطل تقني وقع فيها. إلا أن مصادر واسعة الاطلاع لفتت إلى أن طائرة تابعة لشركة «الاتحاد» هبطت في مطار بيروت الدولي بالتزامن مع إقلاع الطائرة اللبنانية. واللافت في الأمر هو ما يجري تناقله على نطاق واسع بين المعنيين لناحية القول إن طائرة «الاتحاد» هبطت على المدرج ذاته الذي أقلعت منه الطائرة الإثيوبية، وفي مسار معاكس لمسار الطائرة الثانية، ما أدى إلى ارتباك قائد الطائرة الإثيوبية، وخاصة أنه لم يتبلغ من برج المراقبة بمسار الطائرة المتجهة نحوه. لكن هذه الرواية لم يؤكدها أي مصدر رسمي مسؤول.
في الإطار ذاته، أكد مسؤول معنيّ بالقضية أن سرعة انطلاق الطائرة لم تكن زائدة على المعتاد، إذ إن بعض الطائرات تصل إلى ارتفاع أكثر من 8 آلاف قدم في غضون 3 دقائق، وبذلك، تكون سرعة الطائرة عند الإقلاع اعتيادية.
لكن كل ما يقال عن هذه التحقيقات لا يزال في إطار التكهنات، بحسب مسؤول رفيع المستوى معني بالتحقيق. ولا يحسم هذه التكهنات إلا الصندوق الأسود. ووفقاً للمصدر نفسه، فإن المعنيين مباشرة بالتحقيق، بحسب القانون الدولي، هم 3 أطراف: لبنان وإثيوبيا والشركة المصنّعة. وأكد المدير العام للطيران المدني، حمدي شوق، أن لبنان طلب من فرنسا، بموجب بروتوكول موقع معها، حضورها للإشراف على التحقيق، بصفتها محايدة وعلمية متخصصة، ولذلك سيحضر اختصاصيون منتدبون من مكتب التحقيق الفرنسي بحوادث الطيران.
إضافة إلى ذلك، وصلت لجنة تحقيق إثيوبية، وثانية من شركة «بوينغ»، وثالثة أميركية (من لجنة MTSP المتخصصة بالتحقيقات في حوادث الطائرات). أما اللجنة اللبنانية فتتألف من كل من مدير الطيران المدني حمدي شوق، والطيار محمد عزيز من طيران الشرق الأوسط، وعمر قدوحة من الطيران المدني.
ويؤكد مصدر متابع أن هذه اللجان ستعمل على مستويات عديدة؛ فقبل العثور على الصندوق الأسود، سيجري التحقيق في التشوه الذي أصاب أجساد ركاب الطائرة وقطع هيكلها، إضافة إلى تسجيلات الأحاديث التي أجريت بين برج المراقبة والطيار. ولفت المصدر إلى أن العثور على الصندوق الأسود لن يؤدي إلى إصدار الاستنتاجات ونتائج التحقيقات فوراً، بل إن ذلك سيستغرق ما بين 3 و6 أشهر في حد أدنى، لكون هذا التحقيق من النوع الذي تتداخل فيه جهات عديدة وتراقبه لجان متخصصة مختلفة، وهو يتطلب معطيات دقيقة جداً لا يمكن أن تتوافر على عجل.
(الأخبار)