ابراهيم الأمينإلى العزيزة في إثيوبيا فكرتا لغزوس (فيكي)

مصيبة تطفو فوق كل المصائب. لم يبقَ منزل في البلاد خارج شعور الصدمة وهول المأساة. الناس شعروا للحظات بأن لبنان في مأتم عام. ليس الحديث وحده ما يسيطر، بل الأسئلة الكبرى، وهي الأسئلة التي تعيد إلى الأذهان حكايات الموت الآتي من بعيد، أو ذلك الموت الذي يُعيد لصق الناس بعضهم ببعض، يلفّها ويحزمها ولو بالشريط الأسود. لا أحد يمكنه إغماض عينه عن لحظة تخيّل المصيبة في بيته، بين أهله وأصحابه والأقربين. ولمجرد تصور القسوة يتحول الصمت صراخاً داخلياً لا يسمعه أحد، لكن الجميع يشعر به. ثمّة حالة نفسيّة تعكس خللاً في تركيبة أشخاصنا كأفراد أو كمواطنين. ولا أحد يعرف الجواب عن السؤال الأصعب: ألا يصح اللقاء إلا عند حافة القبر؟
ستطول أيام الانتظار، ورواد الشاطئ سيرمون الورود لأيام وأيام، لكن وجعنا الآخر، المستمر من كل شيء حولنا، لن يدعنا نرتاح أمام البحر. لم يكن أحد يريد لوم أحد على خلل أو خطأ أو تقصير. بدت الدولة أمامنا على حقيقتها. الموت يجرها بقوّته الخارقة حيث يجب أن تكون، لكن صخب البحث عن الأنا يعيد الناس سريعاً إلى دورتهم الدائمة. تلك الدورة التي تجعلنا في لحظات لا نشبه يوم حزننا الطويل، وتفصل في ما بيننا، وكأن الفرح أو الزهو عنوان فرقة، ولا يجمع سوى الموت.
مأساة لبنان، ليست في عدم منع الموت، بل في عدم منع تحول الموت إلى مأساة متواصلة. هي مأساة العجز عن القيام بشيء حقيقي. هي حال كل الذين توافدوا إلى الشاطئ. يضمون أيديهم بقوة إلى صدورهم وهم يكتمون غيظ العجز. لا مجال لتخيل صورة البطل المنقذ القادر على قلب الحقيقة القاسية. هي نفسها حال المئات من الذين قصدوا الأمكنة الحارة بدفء البكاء والنحيب والعيون المتنقلة بحثاً عن وجوه لن تطل من جديد. هو العجز الذي يصيب كل من تسمَّر أمام الشاشات لا يرى سوى البحر غاضباً، لا يريد الهدوء، فيما جنوننا الأكبر يعيدنا إلى المنجّمين الفرحين بنجاحاتهم، الذين يبدون أكثر حماسة للمزيد وسط استسلام الناس من حولهم.
شعرت برغبة في ضمّ سعد الحريري عندما سمعته يستجدي احترام الإعلاميين لمشاعر العائلات المنكوبة. وشعرت به يعود إلى لحظات تخصه وحده، عندما استعاد هول الشعور بفقدان قريب. كان الحزن من حوله يذكره بأشياء تعنيه هو لا لون لها ولا اسم. وحده الشريط الأسود كان يعصب عينيه، ولا حاجة لأن يهمس في أذنه أحد بكلمة كي لا تفوته، ولا أن يوصيه آخر بحركة في اليد أو الوجه. كانت المأساة مرسومة على وجهه. وكان الصمت من حوله يوحي أمراً واحداً، هو أن الإنسان متى عُزل عن عواطفه المكتسبة والمكدسة بفعل المسموع والمرئي، الحقيقي منه والمركَّب، يعود إلى لحظة ولادته الحقيقية، تلك التي توصله حيث لا يقدر الآخرون أن يصلوه.
لم يكن لغازي العريضي القدرة على منع الطائرة من التحليق. وليس في مقدوره إعادة الشريط دقائق إلى الخلف ليعيد إلى الناس أحبتهم. ولا كان في مقدور محمد جواد خليفة تقديم وصفة أو نصيحة ولا حتى تقديم العلاج. كانت الدولة حاضرة. صار أفرادها معزّين، يواسون الأهالي، يسمعون كلاماً غير مفهوم، فيه الاحتجاج وفيه التوسل، وفيه السؤال عن المستحيل، الذي لا يقدر عليه أحد، لا من الموجودين في مؤسسات الدولة ولا الذين ينتظرون خارجها. بدت الدولة الفعلية عاجزة عن خطوة تتجاوز التضامن. بدا الكبار الذين يفرض عليهم المبادرة في حالة حيرة. لا نملك سوى صداقات قادرة على توفير مساعدة تعيد إلينا الجثامين لندفنها. لا خبرة، ولا تجربة، ولا قدرة على مواجهة مأساة كهذه. بدت الدولة مثل كبير فقد كل أحبته، تعوَّد الموت من حوله، لكنه غير قادر على أكثر من البكاء والحلم. والقسوة في دواخلنا لم تعلمنا الأشياء الأفضل. وأسرارنا الكبيرة نخفيها بين ثنايانا ونحن نعود أدراجنا إلى غرفنا الضيقة. ولا أحد منا يعاود السؤال عن الآخر، ولا عن اليوم الآخر.
وسط كل هذا الصمت، هل لنا أن نلتفت قليلاً من حولنا، وهل نسمع بكاء شابات تركن الأهل في أول العمر، ليحملن أطفالنا يوم ولدوا ويوم كبروا، ويعملن على تجهيز أسرّتنا وطعامنا وثيابنا وأشيائنا التافهة، ويتحملن أمزجتنا البشعة وأصواتنا المرتفعة، ويخضعن لذاتية وفوقية لا مكان لهما خارج غرف منازلنا الضيقة؟ هل لنا أن نفكر قليلاً في حال من تحمّلن خطر الموت ضرباً أو اغتصاباً أو جوعاً في سجن بغيض، أو انتحاراً... وهن يحلمن بيوم العودة إلى أهل ربما كانوا أفضل منا بكثير، لكن البحر دعاهم مرّة واحدة وأخيرة، ليكونوا ضيوفه، يراقصهم بجنونه قبل أن يجعل منهم وليمة الفجر!؟